في الوقت الذى مثلت فيه "عصا" العقوبات محور الدبلوماسية الأمريكية تجاه خصوم واشنطن، وعلى رأسهم إيران، منذ اعتلاء الرئيس دونالد ترامب عرش البيت الأبيض، في عام 2017، إلا أن ثمة تغييرات جذرية فرضت نفسها على السياسة الخارجية الأمريكية في الآونة الأخيرة، وذلك بالتزامن مع تفشى فيروس "كورونا"، في العديد من دول العالم، وهو ما فتح الباب أمام تعزيز الدور الذى تلعبه قوى منافسة للولايات المتحدة، في النظام الدولى، وبالتالي مزاحمتها على قمة العالم، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الهيمنة الأمريكية المنفردة، والتي بدأت مع مطلع التسعينات من القرن الماضى، مع انهيار الاتحاد السوفيتى، وإعلان نهاية حقبة الحرب الباردة بانتصار المعسكر الغربى.
ولعل الحديث عن قضية العقوبات الأمريكية لا يقتصر، في عهد ترامب، على ما يمكننا تسميته بـ"محور المارقين"، والذى يضم الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، وإنما امتد إلى الحلفاء، وذلك عبر إجراءات جمركية اتخذتها الإدارة الأمريكية، على الواردات القادمة من أوروبا تارة، أو التلويح بالانسحاب من الناتو لعدم وفاء بعض الدول بالتزاماتها المالية، تجاه التحالف الذى طالما مثل رمزا عسكريا للمعسكر الغربى لعقود طويلة من الزمن، تارة أخرى، بالإضافة إلى التهديد الأمريكي الصريح بفرض عقوبات على الحلفاء، الذين سيتخذون خطوات أحادية للالتفاف على العقوبات الأمريكية المفروضة على خصوم واشنطن، وعلى رأسها إيران تارة ثالثة، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا للأهمية الكبيرة لدبلوماسية العقوبات في أجندة ترامب السياسية.
أمريكا أولا.. ليس مجرد شعار وإنما سياسة
إلا أن ثمة اختلافا كبيرا في النهج ربما تضطر إليه إدارة ترامب في الأيام القادمة، في ظل تفشى فيروس "كورونا"، ليطال العديد من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة نفسها، في ظل ارتفاع أعداد المصابين بصورة كبيرة، في الوقت الذى نجحت فيه قوى أخرى، على غرار الصين، السيطرة على الأمور في الداخل، ليمتد دورها بعد ذلك إلى خارج الحدود، عبر تقديم الدعم لدول أخرى، من بينهم حلفاء واشنطن، كدول أوروبا التي تعانى من انتشار الفيروس القاتل، من بينها إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وغيرها، في حين قامت روسيا هي الأخرى بدور مماثل عبر إرسال بعثات لتقديم مساعدات، عبر طائرات نقل عسكرية، للعديد من دول الغرب الموبوء، كانت إحداها إلى ولاية نيويورك الأمريكية، والتي تمثل أحد بؤر انتشار الفيروس بالأراضى الأمريكية.
شعار ترامب فى حملته الانتخابية أمريكا أولا
الدور الإنسانى، الذى تلعبه القوى المنافسة لواشنطن، على قمة النظام الدولى، يحمل في طياته أبعادا سياسية، يقوم في الأساس على كشف القناع الذى طالما ارتداه الغرب، لأهداف سياسية، تدور في معظمها حول إجبار خصوم أمريكا على تقديم أكبر قدر من التنازلات السياسية وبالتالي الدوران في فلك الإدارة، خاصة بعدما تخلت إدارة ترامب عن الحلفاء، في مواجهة الأزمة الإنسانية الأخيرة التي اجتاحت أراضيهم في الشهور الماضية، في إطار شعار "أمريكا أولا" الذى طالما رفعه الرئيس الأمريكي منذ حملته الانتخابية الأولى، والذى تجاوز كونه شعارا انتخابيا، ليتحول إلى سياسة تقوم على منح الأولوية للداخل الأمريكي على حساب الحلفاء.
العقوبات الأمريكية.. فرصة خصوم واشنطن لكشف القناع الإنسانى
ويمثل إصرار واشنطن على عقوباتها المفروضة على العديد من الدول، وعلى رأسها إيران، بمثابة فرصة أخرى جديدة لخصومها للترويج إلى عدم جدارتها بقيادة النظام العالمى، في إطار عملية إعادة تشكيله في المرحلة الراهنة، في ضوء معطيات، أهمها تقاعسها عن مواجهة أزمة إنسانية عالمية، قد تأكل الأخضر واليابس في المستقبل القريب، بسبب حسابات وخصومات سياسية، وهو الأمر الذى يمثل خطورة بالغة إلى حد تهديد السلم والأمن الدوليين، وهو الأمر الذى يبدو واضحا في حديث الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، أمام قادة مجموعة العشرين في مارس الماضى، حول أهمية تعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على العديد من الدول في المرحلة الحالية، لأسباب إنسانية بعيدا عن السياسة.
ترامب يوقع قرار الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران
البعد الإنسانى للأزمة الحالية دفع إلى تغيير ملحوظ في السياسات، خاصة بين حلفاء واشنطن، الذين أبدوا قدرا من التمرد على القيادة الأمريكية منذ بداية حقبة ترامب، خاصة فيما يتعلق بالأزمة الإيرانية، وهو ما بدا واضحا في تفعيل ألية "أنستكس"، والتي تقوم على تسهيل العمليات التجارية بين دول أوروبا الغربية وطهران، وحماية الشركات الأوروبية من العقوبات الأمريكية التي قد تطالها جراء التعامل مع إيران في المرحلة المقبلة، وذلك عبر تصدير معدات طبية للدولة الفارسية، من كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، كما أعلنت سويسرا في وقت سابق إرسال مساعدات دوائية لطهران.
أزمة واشنطن.. الحلفاء يتحركون بعيدا عن الفلك الأمريكى
وهنا تتجلى أزمة واشنطن، والتي لا تقتصر على الحرج المرتبط بسياساتها الإنسانية، وإنما تمتد إلى خروج العديد من الحلفاء عن طوعها، مما يضع مستقبلها القيادى على قمة النظام الدولى في مأزق حقيقى، وهو الأمر الذى حاول وزير الخارجية الأمريكي تداركه، عبر الحديث عن توجه الإدارة نحو تخفيف العقوبات المفروضة على إيران، وغيرها من الدول الأخرى، لأسباب إنسانية، على خلفية تفشى فيروس "كورونا"، وهو الأمر الذى تبدو واشنطن مجبرة عليه في المرحلة الراهنة، في ظل تراجع دورها في مجابهة الأزمة الدولية، مقابل تصاعد الدور الذى تلعبه قوى أخرى.
يبدو أن انتشار الفيروس القاتل يساهم بصورة كبيرة في إعادة تشكيل النظام الدولى، في مرحلة "ما بعد كورونا"، خاصة وأن القوى المهيمنة باتت تتعرض لضغوط كبيرة لتغيير نهجها، القائم على فرض كلمتها على الجميع بمنطق القوة، إلا أن ثمة تغييرات جذرية ربما تشهدها السياسات الأمريكية في المرحلة المقبلة، تعكس خريطة دولية جديدة تتشارك فيها عدة قوى في إدارة العالم، في إطار عالم متعدد الأقطاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة