نواصل مع المفكر العربى الكبير جواد على (1907- 1987) قراءة التاريخ العربى القديم، وذلك من خلال كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" ونتحدث اليوم عن ملوك الحيرة.
يقول جواد على:
عرف ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، وبـ "آل لخم"، وبـ "آل محرق"، وبـ "آل النعمان"، وبـ "آل عدى"، وورد أن العرب كانت تسمى بنى المنذر الملوك "الأشاهب" لجمالهم، ويظهر أن شهرة ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، هى شهرة قديمة تعود إلى ما قبل الإسلام بزمن طويل، فقد ورد فى الأخبار عن "نهر دعة" "Nehardea" وهى مستوطنة من المستوطنات اليهودية القديمة الكبيرة التى تأسست فى العراق، وتقع عند فم نهر ملكا "Nehr Malka"، أى مخرج نهر الملك من الفرات، أنه فى سنة "570" من التقويم السلوقى الموافقة لسنة "259" للميلاد، جاء "بابا ابن نصر" إلى مدينة "نهر دعة" وخربها، فهربت بعض أحبارها إلى مواضع يهودية أخرى، كانت ملجأ لليهود.
ويظهر أن الأمير المهاجم، وقد سمى فى الخبر بـ "بابا" "Papa"، كان من أبناء سيد قبيلة عربية اسمه "نصر"، وقد عرف بـ "برنصر" و"بن نصر" فى التلمود، وقد ذهب الباحثون إلى أن المراد به أحد أمراء الحيرة من "آل نصر"، أما "كريتز" "Gratz"، وهو من المؤرخين اليهود المشهورين، فقد ذهب إلى أنه "أذينة" زوج الملكة "زنوبيا" "الزباء" "Zenobias" ملكة تدمر. غير أن هنالك أدلة تاريخية لا تؤيد هذا الرأي، ثم إن الموارد العربية تنعت ملوك الحيرة بـ "آل نصر"، ولم يشتهر ملوك تدمر فيها بـ "آل نصر".
وقد تحدثت إليك برأى أهل الأخبار فى أول من حكم الحيرة من الملوك، ورأينا أن "مالك بن فهم" هو أول ملك حكم هذا الموضع على زعم، وهو فى نظرهم من الأزد، وقد حكم مدة عشرين عامًا على رواية الأخباريين.
وقد زعم "حمزة الأصفهاني" أن "ملك بن فهم" تملك تنوخ العراق فى زمان ملوك الطوائف، وأن منزله كان بالأنبار، وأنه بقى بها إلى أن رماه ابنه "سليمة بن مالك بن فهم" رمية بالنبل، وهو لا يعرفه، فلما علم أن سليمة راميه، قال.
جزانى لا جزاه الله خيرًا ... سليمة إنه شرًّا جزانى
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رمانى
فلما قال هذين البيتين فاظ أى مات، وهرب سليمة إلى عمان.
وحكم بعد "مالك بن فهم" أخوه" عمرو بن فهم" على رواية، و"جذيمة الأبرش" المعروف بجذيمة الوضاح أيضًا على رواية أخرى, ولا نعرف من أمر "عمرو" هذا شيئًا يستحق الذكر.
وتزعم رواية أن الذى حكم بعد "مالك بن فهم" هو "جذيمة الأبرش"، وقد جعلته ابنًا لمالك، وجعلت نسبه على هذه الصورة: "جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن الغوث". وقالت: إن والده "مالك هو أول من ملك الضاحية فى حكم ملوك الطوائف.
أما حظ جذيمة الأبرش، فهو خير من حظ الرجلين السابقين عند الأخباريين، فله فى رواياتهم شعر وحديث، وقد تحدثوا عنه، ونسبوا إليه الغزوات، وجاد عليه بعض الرواة فرفعوا زمانه وجعلوه فى العاربة الأولى، جعلوه من بنى "وبار ابن أميم بن لوذ بن سام بن نوح"، وصيروه "من أفضل ملوك العرب رأيًا، وأبعدهم مغارًا، وأشدهم نكاية، وأظهرهم حزمًا. وأول من استجمع له الملك بأرض العراق، وضم إليه العرب، وغزا بالجيوش"، وذكر "المسعودي" أنه أول من ملك الحيرة.
وقد وصفوه أيضًا، فقالوا: إنه "كان به برص، فكنت العرب عنه، وهابت العرب أن تسميه به، وتنسبه إليه، إعظامًا له. فقيل: جذيمة الوضاح وجذيمة الأبرش"، وذكر "المسعودي" أن جذيمة هو صاحب النديمين اللذين يضرب بهما المثل، واستشهد على ذلك بشعر لـ "متمم بن نويرة اليربوعي" فى مرثيته لأخيه مالك بن نويرة:
وكنا كندمانى جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وقد ذكر أن النديمين المذكورين هما: مالك وعقيل، وهما ابنا "فرج بن مالك" من "بلقين"، وكانا قد قدما من الشام، يريدان جذيمة، فوجدا فتى قد تلبد شعره، وطالت أظافره، وساءت حاله، أسرع نحوهما يرجو الطعام والرعاية، فلما سألاه عن حاله، وتبين لهما أنه "عمرو بن عدى"، سرًّا به كثيرًا، وعنيا به، وأخذاه معهما إلى "جذيمة"، فلما رآه، فرح به فرحًا كبيرًا، لعودته إليه، ونظر إليه، ثم أعاد عليه الطوق، وكان جذيمة قد صنعة له قبلًا، ثم قال: "كبر عمرو عن الطوق"، وكان الجن قد استطارته، أى خطفته.
وقال جذيمة لمالك وعقيل: ما حكمكما، أى ما طلبكما! قالا حكمنا منادمتك. فأصبحا يضرب بهما المثل.
وذكر "المسعودي" أن كنية "جذيمة" التى عرف بها هى "أبو مالك"، وروى فى ذلك شعرًا، زعم أن قائله هو سويد بن كاهل اليشكرى":
إن أذق حتفى، فقبلى ذاقه ... طسم وعاد وجديس ذو السبع
وأبو مالك القيل الذى ... قتلته بنت عمرو بالخدع
وذكر الأخباريون أن جذيمة غزا طسمًا وجديسًا، غزاهم فى منازلهم من "جو" وما حولهم، فأصاب "حسان بن تبع أسعد أبى كرب"، وقد أغار على طسم وجديس باليمامة، فانكفأ جذيمة راجعًا بمن معه، وأتت خيول تبع على سرية لجذيمة، فاجتاحها وبلغ جذيمة خبرهم، فقال فى ذلك شعرًا.