- العقود الآجلة لـ"غرب تكساس" تضغط على توازن العرض والطلب وتشعل المضاربات فى سوق النفط
- 160 مليون برميل فى عرض البحر لا تجد مشترين أو قدرات تخزين قادرة على استيعاب التدفقات
- خسائر الخام الأمريكى قد تعزز أداء مزيج برنت وسلة أوبك وتجبر واشنطن على إجراءات صارمة
- أزمة النفط الحالية تعجل بدفع الحكومات لفتح الأسواق والاستسلام لخسائر وباء كورونا المتوقعة
- خسائر الشركات والمنتجين ستزيد الضغوط المستقبلية على الأسواق بما يشعل الأسعار فى المدى المتوسط
- توقع بعودة الأسعار لمستوياتها قبل أيام مع مخاوف من تكرار الأزمة نفسها يوم 21 مايو
صدمة قاسية شهدتها الأسواق العالمية مؤخرا، بتراجع سعر النفط لمستويات قياسية جديدة، كانت ذروتها مع تقهقر الخام الأمريكى بوتيرة متسارعة للغاية، وإغلاق تداولات الاثنين عند أقل مستوى تاريخى يسجله خام غرب تكساس الوسيط بنحو 37 دولارا و63 سنتا تحت الصفر.
كثيرون من الخبراء اعتبروا الأمر مؤشرا مُقلقا بشأن مستقبل القطاع، وما يمكن أن تتطور إليه الأمور من أضرار مباشرة للشركات، ومن ورائها الدول التى تستند مداخيلها بالأساس على إيرادات الطاقة، وهى رؤية لا تبدو بعيدة عن الواقع الراهن، لكن ربما يكون التمادى فى مدّ خطوطها دون حاجز زمنى أمرا غير دقيق، لا سيما أن هناك تفاعلات متسارعة تشهدها الأسواق، على صعيد المعادلات المتحكمة فى الطلب، أو الجزء الخفىّ من جبل الثلج: مستويات التشبّع الفعلية، وقدرات السوق على امتصاص المعروض، ومدى المناورة المتاح لدى اللاعبين الكبار.
الصدمة وحدها لا تقتل
مبعث الأزمة الأخيرة أن مهلة العقود الآجلة لشهر مايو كان موعد انتهائها الثلاثاء، ومع الاقتراب من توقف التداولات سعى المتعاملون وحائزو تلك العقود من المُضاربين للوصول إلى مشترين للخام بأية صورة. هكذا تهاوت الأسعار إلى ما دون الصفر، لكن مع عبور محطة المهلة وإغلاق ملف عقود مايو، بما سبّبته من خسائر، فإن السوق قد تستعيد مستوياتها السابقة، فى انتظار جولة جديدة مُشابهة مع مهلة عقود يونيو، أو استقبال موجة تعافى بفعل إجراءات الحكومات المتوقعة وتفاعلات أطراف السوق.
الرئيس الأمريكى قال مؤخرا إنهم بصدد تعزيز المخزون الاستراتيجى بـ75 مليون برميل. بعيدا عن بواعث الخطوة الآن، ونوعية الخام التى يستهدفها ترامب، فإن الإشارة العميقة وراء الأمر أن هناك سعات تخزين غير مشغولة، والمشهد ليس بعيدا من التكرار لدى أطراف أخرى. تلك الرؤية قد تعنى أن المضاربين وحائزى العقود ربما مُنعوا من التخزين عمدا، عبر إغلاق مقصود لهذا المسار فى وجوههم. يُحتمل أن يكون الأمر مرتبطا بالسياق السياسى، الذى تدفع فيه الإدارة الأمريكية لإنهاء حالة الإغلاق، ما يتسبب فى صراع بين البيت الأبيض وحكام الولايات!
بعيدا عن الوجه البسيط لمشهد الانهيار الطارئ، والعابر أيضًا، فإن القراءات المتعجلة لتطورات السوق وفق منحنيات درامية، كان القدر الأكبر منها واقعا تحت تأثير الصدمة، وانفعاليا بالدرجة نفسها التى حكمت سلوك المتعاملين على عقود الخام أو معروض السوق الحاضرة. أكثر الرؤى ترددا كانت تدور فى فلك افتراضات وتخمينات بأن الضربة القاسية مقدمة لفترة من الكساد، يتوقف فيها الطلب تماما، مع صعوبة اتخاذ قرار موحّد من المنتجين فى أوبك وحلفائها بتجفيف القدرات الإنتاجية لحين امتصاص الفوائض. الحقيقة أن تلك الرؤية على ما يبدو فيها من منطق، تُغفل أبعادا أخرى عديدة، لا تتحكم فى معادلات السوق فقط، وإنما تربطها عضويا بملفات أكثر ضغطا على الحكومات، وأكثر تحكما فى صياغة قراراتها، على الأقل فى المدى الوشيك.
النظر إلى المشهد المشتعل سيطرت عليه رؤية أحادية، انحازت لتقييم تفاعلات السوق، واستشراف مستقبل التوازن المختل بين العرض والطلب، تأسيسا على التهاوى التاريخى لأسعار الخام الأمريكى، بمعزل عن أداء يبدو مستقرا نسبيا، أو محدود السوء فى الخليج وبحر الشمال، بالنظر إلى محنة منتجى النفط الصخرى بالولايات المتحدة، والأهم حدود الارتباط الشرطى بين انهيار تسعير الخام الأمريكى، وضرورة ترجمة ذلك فى صورة انهيار مقابل لمزيج برنت أو سلة أوبك، وإمكانية أن تدفع الصدمة فى جانب من السوق إلى إنعاش الجانب الآخر، أو دفع الحكومات للتعجيل بإجراءات وتدابير كانت محل جدل خلال الأيام الأخيرة.
حتى إغلاق تداولات الاثنين، بلغت خسائر برنت نحو 6.6%، لكنه ظل عند مستوى أكبر من 26 دولارا، وسجلت تعاقدات يونيو 25 دولارا، كما كانت مستويات سلة أوبك دون 20 دولارا بهامش بسيط. فى ضوء تلك المؤشرات لا يُمكن الربط الطردى بين أداء الخام الأمريكى وباقى مكونات السوق، ومن غير المؤكد أن يكون انهياره الحاد استشرافا موضوعيا لما يمكن أن يصل إليه القطاع بكامله. صحيح أن الأمر صدمة حقيقية يصعب إنكارها، لكن معادلات الأرقام ومنحنيات الأداء الفعلى حتى الآن، وما تملكه الأطراف من أوراق وسيناريوهات للمناورة وتنشيط التفاعلات اللحظية بين شركاء معادلة العرض والطلب، قد تشير جميعا إلى أنه ليس شرطا أن يكون الانهيار جماعيا واسع المدى، وأن الصدمة وحدها ربما لا تكون قاتلة!
أسباب انهيار السوق
طوال الفترة الماضية كان مُتوقعا أن تتحلل قدرات السوق فاقدةً جانبا من اتزانها، وعمليا فإن نسبة التراجع فى أداء سلة أوبك ومزيج برنت تظل مقبولة فى إطار تلك الرؤية، لذا فإنه يُحتمل ألا تكون الضربة القاسية التى تلقاها الخام الأمريكى تلخيصا موضوعيا وغير مخلّ لحالة السوق. هناك أسباب مباشرة تتصل بمكونات معادلة تداول النفط وتفاعلاتها، لكن إلى جانب ذلك ترتبط الأمور بأسباب ومثيرات أخرى.
أرجح التصورات حتى الآن أن التصاعد الدرامى الذى عاشته السوق يرتبط بحلول آجال دفعة كبيرة من العقود، فى وقت يتقلص فيه الطلب وتقترب قدرات التخزين المتاحة من الصفر. هنا لم يجد المتعاقدون حلولا لتصريف الخام أو الاحتفاظ به، أو أُجبروا على ذلك بصورة غير مباشرة، لتتوقف التعاملات فعليا عند نقطة تجمد، تضغط بدورها على الشركات المنتجة بصورة قد تجبرها على تصفير قدراتها الإنتاجية. النموذج الرياضى الافتراضى يُترجم المعروض الكبير مقابل قدرات الاستيعاب المنعدمة فى صورة تسعير سالب، لكن فى المستوى العملى تجمدت عقود مايو، لكن تداولات "غرب تكساس" للسوق الحاضرة وآجال يونيو وما بعدها لم تتأثر.
إلى ذلك، وخارج تعقيدات المشهد بالولايات المتحدة، فإن السوق الحاضرة تشهد معروضا كبيرا، بسبب خلافات المنتجين فى "أوبك+" وضعف قدرتهم على اتخاذ قرار جاد بتقليص الإنتاج لمستويات قياسية كافية لموازنة العرض والطلب. بعض التقارير تشير إلى أن نحو 160 مليون برميل حائرة فى خزانات الناقلات العملاقة دون مرافئ لاستقبالها، فى الوقت نفسه يسجل الإنتاج 100 مليون برميل يومى، بينما تقلص الطلب 30% منذ بدء أزمة كورونا، أى أننا أمام فوائض يومية تتجاوز 20 مليون برميل حتى بعد قرار أوبك بخفض الإنتاج. وفق تلك التعقيدات فإن المضاربين على العقود لن يغامروا بانتهاء صلاحيتها وخسارة كامل القيمة، وهنا ينشط البيع المحموم لتقليص الخسائر، وبفعل تضاؤل الطلب أو إغلاق مسارات التخزين، فإن المضاربات تتوالى دافعة الأسعار إلى قاع جديد. هذا ما حدث تقريبا مع الخام الأمريكى.
تلك الرؤية لا تتيح قراءة وافية لحدود الأزمة وما يمكن أن تمضى إليه، من دون توافر أرقام واضحة عن حجم العقود الآجلة التى حل موعد استيفائها فى الوقت الراهن، وخريطة التعاقدات ذات الآجال الوشيكة وحدود ما يمكن أن تمثله من ضغط على الأسواق، وتدفقات السوق الحاضرة، ومعدلات تشغيل منصات التكرير، فضلا عن خريطة الطلب ومزاج المستهلكين والصراعات السياسية، والآفاق المتوقعة فيما يخص إجراءات الحكومات للتعامل مع تداعيات أزمة فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، وضغوطها على أنماط الحياة والاستهلاك.
بحسب تقارير عديدة خلال الأيام الأخيرة، فإن استهلاك الصين البالغ 6.4 مليون برميل يوميا يشهد نموا مرحليا، مع ترقية قدرات التخزين المتاحة. الأمر نفسه ربما يحدث فى مناطق أخرى، بينما تتجه عديد الدول لتجاوز حالة الإغلاق التى فرضها الوباء، وفى الوقت نفسه تفقد السوق حصة غير قليلة من معروضها بتراجع شركات النفط الصخرى، مع آفاق مُحتملة من المناورة قد يلجأ إليها المتحكّمون فى المؤشرات. هكذا لا يمكن الجزم بأن مستقبل السوق سيكون على الصورة الصادمة التى شهدتها تداولات الاثنين. الأسباب متعدّدة ومُركبة، وأى اختراق لهذا التركيب قد يكون كافيا لإعادة صياغة المعادلة من جديد!
سيناريوهات الأزمة ومخاطرها
يبدو المشهد الآن كما لو كان العالم يجلس على برميل نفط مشتعل. الضغوط التى يواجهها المنتجون والشركات، سواء بتقلص الإيرادات وخسائر الأسهم وتراجع جدوى التشغيل، ستنعكس بصورة مباشرة على الاقتصاد العالمى، أولا من جانب أن الركود الحالى ترجمة لتآكل قدرات الإنتاج والتوظيف وتداولات السلع والخدمات، وثانيا أن خسائر المنتجين ستدفع لتقليص الطلب التجارى بشكل عام واتخاذ مسار تقشفى يُعزز مخاطر الركود. تلك الصورة هى الأسوأ حال اعتمدنا أداء الخام الأمريكى مرجعا لقراءة سوق النفط، لكن رغم هذا تظل هناك مسارات واحتمالات أخرى.
أسوأ الافتراضات أن يظل الطلب محدودا، مع عجز أوبك وحلفائها عن التواصل لاتفاق داعم للتوازن وقادر على تنشيط قدرات السوق. هذا السيناريو يعنى مزيدا من الخلل المتنامى، ومنحنى متصل الهبوط للأسعار، لتتخذ توقعات المؤسسات الدولية بشأن مستوى الركود العالمى ومُعدلات الانكماش المحتملة للأسواق مسارا أكثر رمادية، وتبتعد آفاق التعافى بوتيرة أكثر حدة، وإلى ما بعد انتهاء أزمة كورونا بشهور طويلة، وربما عدة سنوات.
فى المقابل، يُحتمل أن تصب خسائر الشركات الأمريكية فى صالح دول أوبك، مع توقف إمدادات النفط الصخرى أو وصولها إلى مستويات بالغة الضآلة، واتجاه واشنطن لتعزيز مخزونها وفتح الاقتصاد. تلك المحفزات ربما تُعيد توجيه الطلب الحالى وما قد يشهده من نمو إلى أسواق أوبك، التى قد تلجأ بدورها لتقليص جديد فى الإنتاج، بعدما ثبت أن قرارها السابق بخصم قرابة 10 ملايين برميل يوميا كان أقل فاعلية من المتوقع، وهو الاحتمال الذى قد يستعيد توازن السوق سريعا!
الاستسلام أمام كورونا
سيناريو ثالث لا يُمكن إغفاله، يتصل بقدر المناورة المتاح لدى أطراف السوق، سواء على صعيد قدرات التخزين، أو إرجاء آجال بعض العقود، أو تسريع وتيرة التشغيل وفتح الأسواق بعيدا عن تدابير الوباء. بيانات إحصائية حديثة أشارت إلى تراجع حركة المرور وخدمات النقل بنحو 80% من مستوياتها الطبيعية، ما يعنى انتظام الحياة بنسبة 20% فقط، وحال مضاعفة النسبة مرة واحدة فإن سوق النفط قد تتعافى أسرع، وتكتسب الأسعار نسبة مكافئة أو بنحو الربع على الأقل.
مخاطر استمرار النزيف الحالى أنه يشكل ضغطا قاسيا على المنتجين. تلك الوضعية ليست فى صالح أحد، حتى المستهلكين أنفسهم، لأن اتصال الأزمة يعنى تضرر الأسواق المنتجة والشركات العالمية المرتبطة بها، وهو ضرر مباشر للدول الصناعية بالنظر إلى خسائر شركاتها أو فقدان عوائد تجارية ضخمة جراء تقشف الدول النفطية كثيفة الإنفاق، كما أن هذا المسار سيُراكم الخسائر بمستويات تصعب معالجتها، وسيكون محتملا مع ذلك أن تلجأ الدول المنتجة لتعويض خسائرها مُستقبلا، بتعطيش السوق والنزول دون مستوى الطلب؛ لإنعاش الأسعار بشكل يكافئ فواقد فترة الأزمة. باختصار يمكن القول إن الأداء الراهن مهدد لكل الأطراف، وإن قدرا أكبر من النزيف معناه خسارة أفدح للجميع!
الجانب المقابل من الصورة، أن ضغوط الأزمة على شركات النفط الصخرى، قد تدفع الولايات المتحدة للتعجيل بفتح الأسواق واستعادة الحياة الطبيعية؛ بغرض تنشيط الطلب على الطاقة، وزيادة الإنتاج، وتحفيز الإنفاق الاستهلاكى، ومن ورائها ستأتى المواقف الشبيهة، وتتخذ حكومات عديد الدول قرارات مماثلة. تلك الإجراءات ستُعجّل بتعافى سوق النفط، لكن سيكون ذلك على حساب التدابير الاحترازية الخاصة بأزمة الوباء، ما يعنى مزيدا من التساهل فى الإجراءات، ولجوءًا إجباريا للاستسلام أمام الفيروس، مع مُخاطرة بتسجيل أرقام أكبر من الإصابات والوفيات، مع الرهان على مناعة الجمهور أو نجاح المراكز البحثية فى المواكبة وابتكار دواء أو لقاح بالسرعة نفسها!
فاتورة الخروج من الأزمة
فى كل المخطّطات الاحتمالية، لا تبدو كُلفة الأزمة الراهنة بسيطة، وبالمثل فإن الخروج منها قد يكون باهظ التكلفة. على سبيل المثال أعدت السعودية موازنة العام الجديد بسعر متوقع للنفط فوق 60 دولارا، بحصيلة إجمالية 193 مليار دولار تمثل نحو 90% من الإيرادات العامة. محطة السوق الراهنة تعنى فقدان المملكة ما لا يقل عن 100 مليار دولار حال استمرار الأداء الحالى لنهاية العام. تلك الفواقد تقابلها خسائر لا تقل فداحة فى أسواق أخرى، وقد تفوقها فى حالة الولايات المتحدة نموذجا، وهكذا تبدو المشكلة مُتشابكة ولا تصب فى صالح أى طرف، ما يجبر الجميع على البحث عن حاول ومخارج عملية، بما يُقلّص الضغط ولا يترك السوق عُرضة لتداعيات تلك الموجة لمدى بعيد!
مؤشرات الأسعار التى شهدت فارقا حادا بين "غرب تكساس" ومزيج برنت، بينما لم يكن يتجاوز 5 دولارات فى المعتاد، تؤكد أن حدة الضغوط تتركز على السوق الأمريكية بقدر أكبر من غيرها، سواء فى أوروبا أو آسيا. هذا الأمر معناه أن مستويات الضرر التى طالت شركات النفط الصخرى قد لا تتكرّر بالشكل نفسه بالنسبة لدول أوبك، لكن حال تطور مناخ عدم الاستقرار قد تجد المنظمة نفسها مضطرة لجولة جديدة من التفاوض بين الأعضاء والحلفاء، بغرض إقرار خفض جديد، أو حتى التوقف عن الضخ تماما لعدة أيام، أو على الأقل تجفيف التدفقات الجديدة للسوق الحاضرة اكتفاء بتلبية العقود الآجلة التى لا يُطلب إرجاؤها، لحين استيعاب السوق للمعروض المتاح فعليا، وتوافر قدرات تخزين تسمح بتنشيط الطلب من جديد، لا سيما أن خزانات شركات التكرير تبدو مُتخمة، بينما تتقلص معدلات السحب اليومى بفعل الإغلاق وتراجع الاستهلاك.
يُحتمل مع تلك الأوضاع أن تلجأ واشنطن إلى أوراق مناورة خفية. عمليا لا يمكن أن تستأنف شركات النفط الصخرى نشاطها بمعادلة جدوى إيجابية إذا ظلت الأسعار دون 60 دولارا للبرميل، بالنظر إلى تكلفة التشغيل والإنتاج المرتفعة، وبعيدا عن الربح فإن الخسارة قد لا تُحتمل على الإطلاق عند سعر أقل من 30 دولارا، ولأنه من غير المتوقع وفق راهن السوق أن يتعافى الطلب دافعا الأسعار لتلك المستويات، فقد لا تكون عودة الولايات المتحدة للعمل وتشغيل الأسواق والحياة اليومية بصورة طبيعية كافيا. وقتها قد تلجأ واشنطن للضغط على "أوبك" بغرض دفعها لتقليص الإنتاج، أو اتخاذ خطوات ذات طابع سياسى لإخراج بعض اللاعبين من السوق، أو تحجيم تدفقاتهم عبر قرارات أو عقوبات أو ضغوط خفية أو إجراءات غير مباشرة ضد إيران أو فنزويلا وغيرهما، لكن بسبب طبيعة الأزمة الإنسانية التى يفرضها الوباء فمن غير المُرجح اتخاذ هذا المسلك حاليا، لكنه يظل احتمالا قائما فى المديين المتوسط والبعيد!
متى تنطفئ حرائق النفط؟
فى الظرف الراهن بما ينطوى عليه من تداعيات اقتصادية وصحية، يصعب استشراف الآفاق المستقبلية لأداء سوق النفط بدقة، أو توقع نقطة التوازن التى قد تصل معها معادلة العرض والطلب لمحطة الاستقرار. من المبالغة القول إن السوق قد تستقيم وتستعيد عافيتها قريبا، وكذلك من التبسيط الذى لا يستند إلى حقائق يقينية القول إن النار ستظل متأججة بالصورة نفسها. كل الاحتمالات مقبولة، لكن الانهيار الكامل أو الاشتعال الذى لا ينطفئ يبدوان أبعد نسبيا، ورسم خريطة المستقبل غير مُمكن بالنظر إلى أن أغلب الأوراق المؤثرة فى السوق ما تزال مخفية وراء ظهور الأطراف الفاعلة.
اتخاذ أوبك والحلفاء قرارا عاجلا بتقليص الإنتاج بنسبة معقولة، أو إيقاف إمدادات السوق الحاضرة لأسبوع أو أكثر، يمكن أن يغير خريطة السوق بصورة كاملة، ورغم صعوبة هذا المسار بالنظر إلى أن هناك دولا وشركات يستحيل عليها هذا الخيار بالغ القسوة، فإن مبادرة الأطراف الفاعلة، مثل السعودية وروسيا، قد تكفى لصناعة الفارق. بالمثل فإن تعجيل واشنطن بمساندة قطاع الطاقة، عبر فتح الأسواق وتشغيلها بمعدلات طبيعية، مع اقتراب دول عديدة مثل ألمانيا وفرنسا من المحطة ذاتها، واستئناف الصين أنشطتها المعتادة بصورة شبه كاملة، قد تسهم كلها فى تحسين الأداء، مع تنشيط الطلب وتسريع عمل شركات التكرير وإتاحة قدرات تخزين قادرة على استيعاب مزيد من التدفقات، أو تقليص المضاربة على العقود الآجلة.
الاحتمال الأكثر تقدما على غيره، أن المنتجين والمستهلكين سيبحثون جميعا عن مخرج، خاصة أن ما يربحه أحدهم الآن سيخسره مستقبلا لصالح الآخر، لذا ليس من مصلحة استقرار السوق واستدامتها، وتعزيز قدرات الدول، المرحلية والمستقبلية، على تجاوز ضغوط كورونا وخسائره، أن تستمر الأوضاع على صورتها الحالية. ستنتهى أزمة عقود مايو وتستعيد المؤشرات مستوياتها السابقة، المنخفضة أصلا. ستظل مخاوف التكرار واردة بحلول مهلة تعاقدات يونيو فى 21 من الشهر المقبل. سيسير الجميع بسرعات متفاوتة باتجاه التشغيل الكامل، وستظل الخيارات محدودة وقاسية، بين: مواجهة المرض مع نزيف اقتصادى قد لا يكون مُحتملا بعد أسابيع أو شهور، أو استعادة عافية الاقتصاد مع قبول خسارة جزئية أمام كورونا، يصعب التنبؤ بحجمها وتأثيراتها النفسية والسياسية. أسعار النفط ستظل فى حيز الارتباك لأسابيع، لكن السوق ستبدأ التعافى مع استعادة الحياة الطبيعية لبعض الدول. هكذا يجلس العالم الآن على برميل نفط مشتعل بسبب انهيار الأسعار وخسائر المنتجين، لكنه حتى بعدما يصل محطة التعافى سيظل جالسا على النار نفسها، عندما يبحث الخاسرون عن مكاسب مؤجّلة، وتضغط الأسعار المتصاعدة على الأسواق من جديد!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة