نواصل اليوم قصة "الأسد والثور" من كتاب "كليلة ودمنة" الشهير فى التراث العربي، وفى الحلقة الماضية كان "دمنة" قد فكر أن يقدم نصيحة لـ الأسد، لكنهم "كليلة" حذره خشية أن يحدث له ما حدث للقرد من النجار.
قال دمنة: وكيف كان ذلك؟
قال كليلة: زعمواً أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بين وتدين، وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك، ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه، فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله، فركب الخشبة، وجعل ظهره قبل الوتد، ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه فى الشق، ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشياً عليه. فكان ما لقى من النجار من الضرب أشد مما أصابه من الخشبة.
قال دمنة: قد سمعت ما ذكرت، ولكن اعلم أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه، وإنما يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو، وإن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذى يصيب عظماً يابساً فيفرح به، وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذى يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه، حتى ترمى له الكسرة، وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلفه حتى يمسح ويتملق له. فمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر، ومن كان فى عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه، ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم.
قال كليلة: قد فهمت ما قلت؛ فراجع عقلك، واعلم أن لكل إنسانٍ منزلةً وقدراً، فإن كان فى منزلته التى هو فيها متماسكاً، كان حقيقاً أن يقنع، وليس لنا من المنزلة ما يحط حالنا التى نحن عليها.
قال دمنة: إن المنازل متنازعةٌ مشتركةٌ على قدر المروءة؛ فالمرء ترفعه مروءته من المنزلة الوضيعة إلى المنزلة الرفيعة؛ ومن لا مروءة له يحط نفسه من المنزلة الرفيعة إلى المنزلة الوضيعة. إن الارتفاع إلى المنزلة الشريفة شديدٌ، والانحطاط منه مهينٌ؛ كالحجر الثقيل: رفعه من الأرض إلى العاتق عسرٌ، ووضعه إلى الأرض هينٌ. فنحن أحق أن نروم ما فوقنا من المنازل، وأن نلتمس ذلك بمروءتنا. ثم كيف نقنع بها ونحن نستطيع التحول عنها؟
قال كليلة: فما الذى اجتمع عليه رأيك؟
قال دمنة: أريد أن أتعرض للأسد عند هذه الفرصة: فإن الأسد ضعيف الرأي، ولعلى على هذه الحال أدنو منه فأصيب عنده منزلةً ومكانةً.
قال كليلة: وما يدريك أن الأسد قد التبس عليه أمره؟
قال دمنة: بالحس والرأى أعلم ذلك منه: فإن الرجل ذا الرأى يعرف حال صاحبه وباطن أمره بما يظهر له من دله وشكله.
قال كليلة: فكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست بصاحب السلطان، ولا لك علمٌ بخدمة السلاطين؟
قال دمنة: الرجل الشديد القوى لا يعجزه الحمل الثقيل، وإن لم تكن عادته الحمل؛ والرجل الضعيف لا يستقل به وإن كان ذلك من صناعته.
قال كليلة: فإن السلطان لا يتوخى بكرامته فضلاء من بحضرته؛ ولكنه يؤثر الأدنى ومن قرب منه. ويقال: إن مثل السلطان فى ذلك مثل شجر الكرم الذى لا يعلق إلا بأقرب الشجر. وكيف ترجو المنزلة عند الأسد ولست تدنو منه؟
قال دمنة: قد فهمت كلامك جميعه وما ذكرت، وأنت صادقٌ. لكن اعلم أن الذى هو قريبٌ من السلطان ولا ذلك فى موضعه ولا تلك منزلته، ليس كمن دنا منه بعد البعد وله حقٌ وحرمةٌ؛ وأنا ملتمس بلوغ مكانتهم بجهدىي، وقد قيل: لا يواظب على باب السلطان إلا من يطرح الأنفة ويحمل الأذى ويكظم الغيظ ويرفق بالناس ويكتم السر؛ فإذا وصل إلى ذلك فقد بلغ مراده.
قال كليلة: هبك وصلت إلى الأسد، فما توفيقك عنده الذى ترجو أن تنال به المنزلة والحظوة لديه؟
قال دمنة: لو دنوت منه وعرفت أخلاقه، لرفقت فى متابعته وقلة الخلاف له. وإذا أراد أمراً هو فى نفسه صواب، زينته له وصبرته عليه، وعرفته بما فيه من النفع والخير؛ وشجعته عليه وعلى الوصول إليه، حتى يزداد به سروراً، وإذا أراد أمراً بما فيه الضر والشين، وأوقفته على ما فى تركه من النفع والزين، بحسب ما أجد إليه السبيل، وأنا أرجو أن أزداد بذلك عند الأسد مكانةً ويرى منى ما لا يراه من غيري: فإن الرجل الأديب الرفيق لو شاء أن يبطل حقاً أو يحق باطلاً لفعل: كالمصور الماهر الذى يصور فى الحيطان صوراً كأنها خارجةٌ وليست بخارجةٍ، وأخرى كأنها داخلةٌ وليست بداخلةٍ.
قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإن أخاف عليك من السلطان فإن صحبته خطرةٌ، وقد قالت العلماء: إن أموراً ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج، ولا يسلم منهن إلا قليلٌ، وهي: صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة. وإنما شبه العلماء السلطان بالجبل الصعب المرتقى الذى فيه الثمار الطيبة والجواهر النفيسة والأدوية النافعة. وهو مع ذلك معدن السباع والنمور والذئاب وكل ضارٍ مخوفٍ. فالارتقاء إليه شديدٌ، والمقام فيه أشد.
قال دمنة: صدقت فيما ذكرت؛ غير أنه من لم يركب الأهوال، لم ينل الرغائب؛ ومن ترك الأمر الذى لعله يبلغ فيه حاجته هيبةً ومخافةً لما لعله أن يتوقاه، فليس ببالغٍ جسيماً. وقد قيل: إن خصالاً ثلاثاً لن يستطيعها أحد إلا يمعونة من علو همةٍ وعظيم خطرٍ: منها عمل السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدو. وقد قالت العلماء فى الرجل الفاضل الرشيد: إن لا يرى إلا فى مكانين، ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرماً، وإما مع النساك متعبداً، كالفيل إنما جماله وبهاؤه فى مكانتين: إما أن تراه وحشياً وإما مركباً للملوك.
قال كليلة: خار الله لك فيما عزمت عليه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة