يبدو الصيام في العقيدة الإسلامية كركن أساسى من أركان الإسلام الخمسة التي بنى عليها الدين الحنيف، وهي فريضة من الله على عباده لصوم شهر رمضان المبارك، كما جاء في القرآن الكريم، لكن الصيام ليس خاص بأهل الديانات الإبراهيمية الثلاث فقط، بل إن الصوم من أقدم الشعائر الدينية والميثيولوجية في العالم، فبعيدا عن الموروثات الدينية القديمة، هناك من لا يزال يعتبره وسيلة لتهذيب النفس وتطهير الجسد من براثن ما يسمى بـ "المحرمات".
وبعيدا عن المعتقدات الدينية، عرف القدماء الصيام، واعتبروا سيلة لتطهير الذات الإنسانية وأداة ناجحة لتحرير العقل الإنساني من الأوهام، ووسيلة للوصول لذروة الإتقان الذهنى والتخلص من طغيان الجسد، ولعل من القصص الشهيرة علميا هى صيام الفيلسوف اليوناني أبيقور Epicurus أربعين يوماً قبل أن يؤدي الامتحان الكبير في جامعة الإسكندرية لشحذ قواه العقلية وطاقة الإبداع عنده.
وبحسب كتاب "الريان في مفهوم الصيام بين الأديان: حقائق علمية - صحية طبية - رؤى نفسية" تأليف حمد بن علي الصفيان، فإن العديد من الحضارات القديمة لكن الصيام عند الإغريق القدماء كان مميزا لأنه وحد في بيئة حاضنة يميزها التفكير الفلسفى بشكل أساس، ولذلك في الأدبيات الإغريقية أجد أن كبار الفلاسفة كانوا صوامين، فسقراط كان كثير الصوم وأبقراط أيضا.
وكان أبقراط ينصح اليونانيين بألا يلجأوا إلى الدواء المادى إلا في آخر مرحلة من مراحل التشافى، ففي اليونان القديمة كان يعتقد أن يوم صوم أفضل من تعاطى العلاج بحسب ما أشار إليه المؤرخ اليوناني هيرودوس، كما كان رجال أفذاذ مثل سقراط وأفلاطون وفيثاغورس يعمدون للصيام للوصول لذروة الإتقان الذهنى والتخلص من طغيان الجسد، فكانوا يعنون بالصوم لأسباب صحية ونفسية وجسدية وفكرية.
وكان الصوم لدى ووردروث المؤرخ اليوناني الشهير يرتبط بالآلة، فكان الصوم لأجل جلب النماء والشجر والماء وللقحط والجدب، أما فيثاغورس فكان يؤمن بأن الصوم قوة فكرية وروحية وجسدية، ولذلك عمد بعض الفلاسف القدامى إلى صيام أيام عدة متواصلة خلال السنة، وكانوا يعدون الصوم خلال أوقات معينة أحسن طريقة لتعليم النفس وتهذيبها كى تتحمل الشاق والعسير من الحياة، فصام فيثاغورس أربعين يوما، وكان مقتنعا بأن الصيام يساعد على العمليات الفكرية، وصام كل من سقراط وأفلاطون عشرة أيام.
وتأثر الفيثاغوريون نسبة إلى الفيلسوف فيثاغورس الذين عاشوا في بلاد اليونان والرومان، وتأثروا بفكره يصومون بسبب الزهد والتقشف، اعتقادا منهم أن البشرية كانت في البداية في حالة من التكامل، ثم فقدتها بسبب الخطيئة والطغيان واعتقد الفيثاغوريون أن الإنسان لا يستطيع التقرب إلى العالم الروحى إلا عن طريق الصيام والابتعاد عن ملذات الحياة.
وفى عصر النهضة في أوروبا، أخذ علماؤها يطالبون الناس بالحد في إفراط تناول الطعام والانغماس في الملذات، ويقترحون الصوم للتخفيف من الشهوات الجامحة، والحد من الانغماس الزائد وراء الطعام والشراب، فهذا أحدهم "لودفيك كارنارو" من البندقية يكتب بحوثا عن فوائد الصوم بعد أن مارسه واستفاد منه، وهو في الثالثة والثامنون من عمره، وكان مما قال: "يا إيطاليا البائسة المسكينة!! إلا ترين أن الشهوة تقود إلى موت مواطنيك أكثر من أي وباء ينتشر أو حرب كاسحة"، "إن هذه المآدب المشينة التي هي واسعة الانتشار اليوم، لها من النتائج الضارة وما يوازى اعنف المعارك الحربية".