-
إعلان الجيش الوطنى الليبى إسقاط "الصخيرات" بمثابة شهادة وفاة لاتفاق مات فعليا منذ مارس 2018
-
الليبيون ينحازون للجيش الوطنى بعد اختبار سنوات الفوضى وصراعات الدم والإرهاب
-
القوات المسلحة الليبية تنتزع اعتراف العالم بشرعيتها العسكرية فى باليرمو وباريس وموسكو وبرلين وجنيف
-
انحياز المبعوث الأممى لحكومة الوفاق رغم خرق حظر التسلح واستغلال المرتزقة والمهاجرين
-
الليبيون الأتراك ينحازون لأصولهم العرقية وأطماع أردوغان على حساب المصالح الوطنية
-
كلية بنغازى الحربية تعيد التوازن للمشهد الليبى وتستعيد عافية الدولة بـ30 ألف مقاتل مدرب
-
تحالف شرق المتوسط يغير نظرة أوروبا لتوغل تركيا فى المنطقة واستهدافها لقبرص واليونان من ليبيا
-
أزمة كورونا تزيد الضغوط على داعمى فائز السراج وتقلص احتمالات اندفاع أردوغان فى مغامرة غير محسوبة
-
مبادرة حفتر بإسقاط اتفاق الصخيرات تنسف وهم "شرعية الوفاق" وتجبر العالم على دعم المسار السياسى الوطنى فى ليبيا
رغم ارتفاع منسوب الارتباك، وتصاعد وتيرة الصراع بدخول أطراف غير محايدة على الخط، كانت السنة الأخيرة الأكثر إيجابية على مسار حلحلة الأزمة المحتدمة فى ليبيا. البلد الذى يعيش فوضى عارمة منذ إطاحة نظام معمر القذافى أوائل العام 2011، بدا فى أوج عافيته منذ أبريل 2019، بعدما استكمل الجيش الوطنى بناء مؤسساته وتحرك فى اتجاه ضبط الخلل الهيكلى الذى عاشته ليبيا، واستعادة الدولة بعد منزلقات حادة دُفعت فيها بفعل الحسابات السياسية الوافدة من خارج حدودها.
لم يكن المشهد مريحا حتى العام 2014. ثلاث سنوات كاملة نشطت فيها التيارات الدينية وفى القلب منها جماعة الإخوان، والميليشيات المسلحة المنبثقة عنها، لتفرض وصايتها على الشارع والمؤسسات. نجحت فى إحكام قبضتها على الحكومة وأذرعها التنفيذية، ولم ينج من تلك القبضة الأصولية سوى مجلس النواب المنتخب فى يونيو 2014، الذى شهد قدرا من التوازن والحضور الواضح للتيارات الوطنية الليبية المتحررة من سطوة الخطاب الدينى وتبعيته لمراكز عابرة للحدود. فى الفترة نفسها ظهر المشير خليفة بلقاسم حفتر، وبدأ أولى خطوات بناء جيش وطنى وتحرير شرق ليبيا من الميليشيات.
عُيّن حفتر قائدا للجيش بصورة رسمية فى مارس 2015. توالى بعد ذلك تحرير مدن الشرق الليبى واستعادة جانب من التوازن لمعادلة الصراع. تلك التطورات قادت أطراف المشهد إلى بلدة الصخيرات المغربية، لتبدأ جولة المفاوضات التى انتهت فى ديسمبر 2015 باتفاق يحمل اسم البلدة، كان مُخططا أن ينهى حالة الانقسام واختطاف مؤسسات الدولة فى غضون عامين على الأكثر، لكن فريقا من المجتمعين كان يُضمر موقفا آخر، لذا امتدت المهلة لنحو 4 سنوات ونصف السنة، قبل أن يقرر الجيش الوطنى فك طلاسم المشهد المشحون برغبات خارجية، ويعلن إسقاط اتفاق الصخيرات رسميا!
ليبيا تتجاوز عقبة "الصخيرات"
قبل يومين طلب المشير خليفة حفتر، القائد العام للجيش الوطنى، تفويضا من الليبيين لإدارة المشهد السياسى وإنهاء حالة الجمود ومسار التدخلات الخارجية المستندة إلى ورقة الصخيرات. وخرج فى كلمة متلفزة مساء الاثنين معلنا سقوط الاتفاق، لأنه "دمر البلاد وقادها إلى منزلقات خطيرة"، مؤكدا قبول التفويض الشعبى لإدارة ليبيا، وأن القيادة العامة للجيش "ستعمل على تهيئة الظروف لبناء مؤسسات الدولة المدنية الدائمة وفق إرادة الشعب الليبى".
لأكثر من أربع سنوات منذ توقيعه، اتُّخذ اتفاق الصخيرات ذريعة لإفشال الجهود السياسية لإدارة التناقضات الداخلية واستعادة توازن القوى على أرضية وطنية يظللها القبول الشعبى. إذ عمدت حكومة الوفاق الوطنى برئاسة فائز السراج، التى تشكلت فى فبراير 2016 بموجب بنود الصخيرات، إلى عرقلة المسار الذى أقره الاتفاق بشأن إنهاء حالة الانقسام والتحرك باتجاه وضع دستور وطنى وإجراء انتخابات عامة. ينص الاتفاق الذى جاء فى 67 مادة ضمن 9 فصول، على إجراءات تفصيلية بشأن الحكومة والمجلس الرئاسى ومجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، فضلا عن الترتيبات الأمنية وتدابير بناء الثقة والعملية الدستورية والهيئات والمجالس المتخصصة والدعم الدولى، لكن كانت أبرز بنوده الإبقاء على برلمان 2014، واعتماد الاتفاق من نواب المجلس، وبدء مرحلة انتقالية لإنجاز مهام الحكومة السياسية فى غضون 18 شهرا، يمكن تمديدها تحت الضرورة لستة أشهر أخرى.
عمليا انتهت مهلة الحكومة الممددة فى فبراير 2018، لكنها لم تُنجز أيا من مهامها الأساسية فيما يخص بناء المؤسسات وتعديل الإعلان الدستورى والاستعداد للانتخابات. فى المقابل سعت إلى إلغاء وضعية مجلس النواب الشرعية بموجب الاتفاق وتأسيسا على أنه السلطة الوحيدة المنتخبة شعبيا فى ليبيا، ورغم أن المجلس لم يعتمد الاتفاق بحسب النص الذى يرهن شرعية الحكومة بتلك الخطوة، فإن السراج ورجاله اعتبروا وجودهم شرعيا من دون ثقة البرلمان، وتطرفوا بالقول إن البرلمان نفسه ليس شرعيا، واعتمدوا ورقة الصخيرات تبريرا لوضعهم الملتبس ودليلا على تمثيلهم للدولة الليبية أمام المجتمع الدولى، رغم أن الاتفاق نفسه ينص على بقاء مجلس النواب، ويحرم الحكومة من شرعيتها ما لم تحصل على ثقته.
تلك الوضعية المهتزة بدت واضحة أمام المجتمع الدولى، إلى الحد الذى جعله عاجزا عن تبرير ممارسات حكومة الوفاق، وفى الوقت نفسه غير قادر على تجاهل مجلس النواب والجيش الوطنى والحكومة المؤقتة شرقى ليبيا. وفق هذا الموقف يمكن القول إن اتفاق الصخيرات سقط فعليا مع دفع المجتمع الدولى فى اتجاه شق مسار تفاوض جديد. لكن لأغراض تُبطنها حكومة الوفاق، أو تُملى عليها من خارج الحدود، فشلت كل المحاولات من باليرموا إلى باريس وموسكو وبرلين وجنيف. كانت الحكومة منقضية الشرعية تتعلل باتفاق الصخيرات بينما تنتهكه عمليا، وتوظفه فى إحباط كل التجارب الساعية لاستعادة العملية السياسية وفق ركائز مؤسسية ودستورية. هكذا لم تكن خطوة المشير حفتر بإعلان إسقاط اتفاق الصخيرات ابتداعا لموقف من خارج حدود المشهد، وإنما كان تأكيدا للحقيقة الثابتة عمليا منذ العام 2018 على الأقل، وللتحركات الدولية التى زادتها رسوخا فى كل محطات البحث عن توافق هش بين أطراف يُدار بعضها أكثر من قدرته على إدارة حيز نفوذه داخل اللعبة.
سر التوقيت وآفاق التحول
النقطة الملفتة فى مشهد التفويض، وتقدم القائد العام للجيش الليبى باتجاه إنهاء حالة الميوعة التى تستميت حكومة الوفاق فى فرضها على المجال العام، أن المشير حفتر فى تلك المرحلة يُدير الصراع بنكهة سياسية مستعينا بالمناورة وتفكيك مكونات الصراع وتخطيط سيناريوهات محتملة لما قد تؤول إليه الأمور، أكثر من رهانه على المكون العسكرى. إذا كان الاتفاق قد سقط فعليا منذ تحرير المناطق الشرقية، أو على الأقل منذ انتهاء مهلة حكومة الوفاق أوائل العام 2018، وترسخ سقوطه مع إطلاق عملية الكرامة لتحرير العاصمة طرابلس وعدد من مدن الغرب والجنوب فى أبريل 2019، فإن الظرف لم يصبح مواتيا لإطلاق رصاصة الرحمة على الاتفاق رسميا سوى الآن.
تتمتع حكومة السراج بدعم علنى من تركيا، مع مساندة سياسية وعسكرية خفية من بعض العواصم فى أوروبا وشمال أفريقيا. موقف المبعوث الأممى غسان سلامة يبدو ملتبسا أيضا، إذ بدا طوال شهور منحازا بصورة ناعمة، فأغفل انتهاك حكومة الوفاق للقرار الأممى بحظر التسليح، وتغاضى عن صفقات عسكرية أبرمها السراج فى التشيك وبعض دول شرقى أوروبا، ولم يُبد موقفا واضحا تجاه تدفق المقاتلين والعتاد بحرا وجوا من تركيا، وبرا من دول متاخمة، والأكثر صدمة أنه استوثق من تجنيد مرتزقة أفارقة وإجبار مئات المهاجرين على الانخراط فى الصراع المسلح، واكتفى بتعليق مقتضب على الأمر لمرة واحدة فى صيف العام الماضى، ثم أغلق الملف كأن لم يكن. فى الحيز السياسى لم تختلف الصورة، كان الأتراك يتحدثون باسم السراج وحكومته فى موسكو وبرلين، واتخذت كثير من الدول المشتبكة مع الملف مواقف محايدة رغم تصاعد منسوب التدخل التركى، وتوطد مسار اختراق "الوفاق" لمقررات الصخيرات وقرار حظر التسليح ليتخذ طابعا منهجيا منتظما، من دون اعتراض أو تدخل أو حتى سد المنافذ البحرية التى تُدير من خلالها حكومة السراج وحلفاؤها فى أنقرة وغيرها تلك الانتهاكات.
بعض دول أوروبا تبدو حائرة بين موقعها تجاه تركيا وتحركاتها العدائية من جانب، وأطماعها السياسية والاقتصادية فى ليبيا، وتطلعها للفوز بحصة من غنيمة النفط من جانب آخر. أنقرة بدورها تتطلع لامتلاك مرتكز إقليمى يعزز مخططاتها لتحجيم النفوذ المصرى، والتوسع فى الظهير الأفريقى، وتأمين مياه مشتركة مع طرابلس تسمح لها باستخلاص ثروات قبرص تحت مظلة ترسيم الحدود البحرية مع السراج. الأخير يحمل ودا عميقا تجاه الدولة التركية، ليس امتنانا للدعم المادى والعسكرى بقدر ما هو انحياز عرقى وثقافى. رئيس حكومة الوفاق ووزير داخليته فتحى باشاغا وعدد آخر من شركائهم ينتسبون لـ"الكراغلة"، أو الليبيين ذوى الأصول التركية، ولديهم روابط وامتدادات عائلية مع آلاف ممن نزحوا إلى موطنهم الأصلى بين الغزو الإيطالى والثورة الليبية أواخر ستينيات القرن الماضى.
وسط تلك التركيبة المعقدة كان الأمر محتاجا لقدر من المناورة واختبار الاحتمالات. يمكن القول إن محطات التفاوض الفاشلة أحرجت حكومة الوفاق أمام الأطراف الدولية الفاعلة، كما أن تغول تركيا المتنامى سريعا زاد منسوب القلق لدى الأوروبيين، لكنهم كانوا يُحاولون الإبقاء على خيط سياسى ناعم لا يُمكّن تركيا تماما ولا يخلق صداما مباشرا. فى المقابل تسببت تداعيات وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" فى صرف أنظار الجوار الأفريقى وأوروبا كليا، وأنقرة جزئيا، عن تفاعلات المشهد الليبى الراهنة، لا سيما مع الاستقرار النسبى فى حالة الجمود والهدنة الظاهرية المفعلة منذ نحو أربعة أشهر. فى القلب من كل تلك التشابكات، ربما رأت القيادة العامة للجيش الليبى أنه الوقت الأنسب لإصدار شهادة وفاة الصخيرات، بعدما مات الاتفاق فعليا وأقر الجميع ضمنيا بالأمر!
ليس شرطا أن تمتد تلك الخطوط على استقامتها، وتنتهى الأمور إلى الغاية التى حددها حفتر بهدوء. فى وقت سابق أعلن متحدث الجيش الوطنى، اللواء أحمد المسمارى، إنهم رصدوا تدريبات جوية تركية فى محاكاة لاستهداف مواقع تحت سيطرة القيادة العامة، فضلا عن مشاركة قوات برية من الأتراك والمرتزقة السوريين فى التخطيط لهجوم على 7 محاور فى محيط مدينة ترهونة، لكنه لم يكتمل وبدت تلك القوات مرتبكة رغم ما تملكه من قدرات، خاصة أن أنقرة دفعت بنحو 16 ألف مرتزق خلال الشهور الماضية بحسب المسمارى، وأكثر من 5 آلاف و300 فضلا عن تجهيز 2100 آخرين بحسب المرصد السورى. من المُحتمل أن تتكرر تلك المحاولات مرة أخرى، وقد تفشل كسابقتها، لكن المؤكد أن القيادة العامة تعى ذلك، ولديها تصورات وخطط عملية لإدارة تلك الاحتمالات. وبعيدا عن أفق التصعيد، فإن تفاعلات المشهد عقب التفويض قد تكون مغايرة تماما لما شهده الصراع الليبى خلال السنوات الخمس الأخيرة.
سيناريوهات ما بعد الصخيرات
ليس متاحا استقراء ما قد تؤول إليه الأمور فى المدى المنظور. أغلب الأطراف المهتمة بالصراع الليبى لا تملك لياقة كافية للدخول على الخط الآن، كما أن تركيا لن تُغامر بضخ مزيد من التعزيزات العسكرية. أغلب الظن أن قدراتها الحالية فى ليبيا ستظل ثابتة لأسابيع مقبلة قبل أن تتمكن من تدعيمها، ومع عجز تلك القدرات عن إحداث فارق حقيقى خلال الفترة الأخيرة فمن غير المتوقع أن تتغير المعادلة، أو يكون التصعيد العسكرى فى واجهة الاحتمالات المرجحة لإدارة تداعيات ما بعد إسقاط اتفاق الصخيرات.
حكومة الوفاق نفسها ليست فى كامل قوتها، خاصة بعدما حرمها الجيش الوطنى من جانب كبير من الموارد النفطية المتولدة من الهلال النفطى والمنطقة الشرقية. وفق تلك التوازنات فإن الأقرب أن تظل الأوضاع الجيوسياسية على حالها مؤقتا، إلا إذا بادر الجيش بتطوير أنشطته وتكثيف العمليات الرامية لاستكمال تحرير طرابلس. حال توافر القوة والإرادة وإنجاز تلك الغاية فإن المعادلة ستتغير تماما دفعة واحدة، أما إذا فشلت خطة التحرير أو اختارت القيادة إبقاء حالة التهدئة النسبية القائمة، فإن الأمور لن تشهد توترا مزعجا أو تصعيدا حادا، لكنها ستمثل فى كل الأحوال استنزافا قاسيا لحكومة الوفاق وميليشياتها المسلحة، وبحسب مبادرات الجيش ستتحدد وتيرة النزيف.
مع استعادة الأطراف الدولية لاتزانها، أو الانتباه وامتلاك فائض طاقة يكفى للعودة إلى المسرح الليبى، فإن الأمر سيشهد محاولات أكثر جدية لإطلاق مسار سياسى جديد، لكن المتغير الأقوى فى تلك الحالة ستحدده تحولات الواقع، بعدما يكون الجيش قد أحكم قبضته على كثير من المؤسسات المدنية وبدا مدعوما بمسار سياسى يرتضيه الليبيون. هذا الأفق لن يقود لتحولات مفصلية وإنما ستكون أقصى مخرجاته الدعوة لحزمة إجراءات سياسية تشبه بنود اتفاق الصخيرات، بدءا من هيكلة مؤسسات الدولة، وصياغة إعلان دستورى جديد أو دستور دائم، والتحرك باتجاه تنظيم انتخابات عامة، وكلها تتلاقى مع تطلعات الشارع الليبى وما أكده المشير حفتر فى خطابه الأخير بإعلان قبول التفويض الشعبى وسقوط اتفاق الصخيرات.
بالتأكيد ستسعى حكومة السراج لاستثارة المجتمع الدولى وشحنه ضد قرار حفتر، عبر تسويق الأمر باعتباره انقلابا على المسار السياسى وإهدارا لشرعية "الوفاق". لكن من غير المرجح أن تُنتج تلك المحاولات مواقف جدية من الأطراف الفاعلة، أولا بسبب خريطة الأولويات المغايرة حاليا لدى تلك الأطراف، وثانيا بسبب حالة اليقين التى بدت فى تعاملات الجميع بشأن تجاوز اتفاق الصخيرات فعليا، وثالثا لأن القلق بدأ يتزايد لدى بعض الدول الأوروبية ومؤسسات الاتحاد بسبب تغول تركيا فى البحر المتوسط على حساب قبرص واليونان، فضلا عن المصالح الاستراتيجية الناشئة ضمن تحالف شرق المتوسط. يُحتمل مع تلك الرؤية أن ترتفع وتيرة التشنج التركى، ويندفع أردوغان فى مغامرة متهورة لاستعادة التوازن الضامن لمصالحه، لكن تلك الحالة تُقيدها اعتبارات دولية وإقليمية عديدة، فضلا عن قدرات الردع لدى الجيش الليبى، التى أثبتت فاعلية جيدة فى تحجيم التحركات التركية طوال الشهور الأخيرة.
الجيش الليبى يربح المعركة
فى المستوى النظرى تبدو عناصر القوة متكافئة لدى الطرفين. لكن بالنظر إلى المنحنى الصاعد لوضعية الجيش الوطنى الليبى على حساب حكومة الوفاق منذ إطلاق عملية الكرامة قبل سنة، يبدو المشهد الراهن كما لو كان انتصارا جزئيا للمشير حفتر على فائز السراج ورجاله من الكراغلة والميليشيات.
رصيد الفوضى الطويل بين 2011 و2014 خصم من قابلية الليبيين لاستمرار الارتباك. كما أن اختبار حالة التماسك الوطنى والتمترس حلف قوة نظامية متحررة من اعتبارات الأيديولوجيا والمصالح السياسية للتيارات المختلفة، عزز القبول العام لرؤية الجيش الوطنى الرامية لإنهاء الصراعات وفرض حالة الانضباط وإجبار الجميع على الاحتكام للمسار السياسى بعيدا عن الأهواء والتحالفات العابرة للحدود. الآن يقود حفتر أكثر من ثلاثين ألف جندى مدرب (بحسب تقديرات لخبراء ومصادر مقربة من الجيش) بعدما جمع العسكريين القدامى وخرّج عشرات الدفعات من الكلية الحربية فى بنغازى. ويبسط سيطرته على أكثر من 90% من البلاد تشمل كل الشرق والجنوب ومناطق شاسعة من الغرب فضلا عن نقاط استراتيجية للغاية فى الوسط مثل قاعدة الجفرة الجوية، ويملك ذراعا جوية قوية وقدرات ردع متنامية للطيران التركى المسير، ويؤازره دعم سياسى من دول قوية وأطراف فاعلة فى المشهد، مقابل انكشاف متواصل لممارسات حكومة الوفاق المستفيدة من إبقاء أجواء الاشتعال، والمنحازة لمدونة التطلعات التركية على حساب المصالح الوطنية الليبية. إجمالا يمكن القول إن الجيش الوطنى فى وضعية أفضل من "الوفاق"، والأهم أن خيارات الليبيين وانحيازاتهم باتت أكثر وضوحا وقوة.
لم يعد الجيش الوطنى "ميليشيات شرقى ليبيا" كما تعاملت معه دول غربية وأذرع إعلامية. بات توصيفه شرعيا راسخا باعتباره منصة وطنية ذات قدرات عسكرية نظامية معترف بها، وتأكد الاعتراف مع حضور المشير حفتر لجولات موسكو وبرلين إلى جانب مجلس النواب وممثلى حكومة طرابلس. تلك الأرض المستقرة تتوسع بفعل مزيد من المكاسب العسكرية والسياسية، وآخرها التفويض الشعبى وتصدر القيادة العامة لإدارة المسار السياسى. الآن إذا دفعت الدول المشتبكة مع الملف الليبى فى اتجاه الحل السياسى مجددا، فإن المعادلة ستكون ذات جناحين: شرعية عسكرية يحتكرها الجيش الوطنى فى مقابل ميليشيات إرهابية لا صفة لها لدى حكومة الوفاق، وشرعية سياسية يعلو فيها المشير حفتر على فائز السراج، أى أنه بات يملك الأغلبية المطلقة للأوراق والمكونات الشرعية المتاحة، وحتى لو دفعت القوى الدولية فى اتجاه صياغة حالة توازن منحازة فسيكون القائد العام شريكا مكافئا لحكومة طرابلس مع امتلاكه الشرعية العسكرية حصرا، أى أنه سيجلس إلى مائدة التفاوض وفى جيوبه ثلاثة أرباع الأوراق والشرعية!
حتى الآن لا يمكن القول إن الأمور استقرت تماما، أو فى سبيلها للاستقرار الوشيك، لكن رغم ذلك فإن مسببات الفوضى لم تعد على صورتها وعناصر قوتها السابقة. الغموض الراهن ينطوى على تفاعلات بطيئة تُعيد هندسة المشهد كاملا بصورة مغايرة، وليس كما كانت الأمور طوال السنوات منذ 2011 حتى قبل شهور من الآن، حيث لا أفق للحل، ولا سيناريوهات مرجحة أو مضمونة المخاطر والمآلات، ولا طرف جاهز للتصدى للمشهد المعقد وتفكيكه وملء الفراغ المتوقع مع أى تغير جذرى، سواء كان مؤسسيا أو شعبيا. الآن تبدلت كل تلك المكونات، فأصبح مسار الحل مرسوما والسيناريوهات أكثر وضوحا، والمؤسسات البديلة جاهزة لإدارة المشهد وإرساء ركائز صالحة لإنجاز المسار السياسى وتجاوز تداعيات التواطؤ وتعمد الإفشال الممنهج للدولة الليبية من جانب حكومة الوفاق. تلك الصورة الأكثر استقرارا وتعزيزا للاطمئنان، تعنى أن ما يحمله المستقبل قد يكون أقل فداحة مما أنتجه الماضى، وأن الجيش الوطنى اقترب للغاية من الانتصار الكامل، وأننا ربما نكون بصدد تشكيل حكومة ومجلس رئاسى جديدين، وبدء الانخراط فى مسار سياسى أكثر وضوحا، ووفق برنامج زمنى محدد. ما يعنى أن الدولة الليبية بصدد استعادة عافيتها ورفع علمها وإعلان الانتصار فى معركتها للبقاء الطبيعى والمتوازن لأول مرة منذ أكثر من تسع سنوات.