كشفت دراسة حديثة أعدها المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية عن انهيار حاد فى الاقتصاد التركى خلال فترة الحجر الصحى بسبب أزمة فيروس كورونا.
وأشارت الدراسة إلى أن المؤشرات الكُلية للاقتصاد التركى تظهر حالة الأزمة التى يُعانيها. ولعل أبرز هذه المؤشرات على الإطلاق مؤشر نمو الناتج المحلى الإجمالى، الذى شهد ترديًا مُنذ الرُبع الثانى من عام 2018، حيث انخفض من مستوى 7.4% فى الرُبع الأول إلى مستوى 5.6%، حتى سجل انكماشًا فى الرُبع الرابع من 2018 بـنسبة -2.8%، ليستمر فى الانكماش خلال الرُبعين الأول والثانى من عام 2019، قبل أن يُحقق نموًّا بمقدار 6% خلال الرُبع الرابع من العام ذاته، ليكون مستوى النمو فى كامل 2019 حوالى 0.9%. ويتوقع صندوق النقد الدولى أن ينكمش النمو فى عام 2020 بمستوى -5%
وأوضحت الدراسة أنه يُسبب تراجع الناتج المحلى الإجمالى سلسلة متوالية من التأثيرات تبدأ بانخفاض نشاط الأعمال، من ثم ارتفاع مستويات البطالة، يُصاحبها انخفاض فى القوة الشرائية، وبالتالى ارتفاع مُعدلات الفقر. ينعكس ذلك فى دورة جديدة على النمو ويبدأ فى انخفاض من جديد. ولا يخرج الاقتصاد من هذه الدائرة إلا عن طريق تحفيز حكومى، مالى أو نقدى، بحيث يرفع مستوى النشاط الاقتصادى مما يكسر تلك الدائرة. لكن الحكومة التُركية تعى محدودية خياراتها فى هذا الصدد، . ويؤكد ذلك نظرة فاحصة على مُعدلات البطالة، إذ يقع الاقتصاد التُركى فى هذه الدوامة دون مُقاومة، فمُنذ عام 2015 ترتفع مُعدلات البطالة باضطراد على المستوى السنوى، الأمر الذى يعنى استمرار تراجع القوى الشرائية فى المُجتمع، وبالتالى تنامى التأثير المُتبادل لها على مُعدلات النمو.
ووفقا للدراسة فإن تقديرات الحكومة التُركية تشير إلى وصول مُعدل البطالة الشهرى إلى 13.5% تقريبًا خلال 2019 وأوائل 2020، فيما كانت قد بلغت فى إجمالى 2019 مستوى 13.7%. ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة بنهاية 2020 لمستوى 17.2%
ومن المرجّح أن ترتفع هذه المُعدلات بشدة، كما تشير توقعات صندوق النقد الدولى لعام 2020، تحت تأثير جائحة كورونا التى يتلخص تأثيرها فى غلق مُنشآت الأعمال، خاصة السياحية التى يعمل بها نحو 8% من نسبة العمالة التُركية، وهو قطاع أصابه إغلاق تام، لذلك ينعكس هذا التأثير على مُعدلات النمو التى بدورها تنعكس عليه مُستقبلًا كما أشرنا سلفًا. بل ويتجه هذا التأثير إلى التفاقم عند النظر إلى المؤشرات النقدية التى نتناولها فى النقطة التالية.
ولفتت الدراسة إلى أن انخفاض النشاط الاقتصادى وارتفاع مُعدلات البطالة فى تركيا دفع البنك المركزى التُركى إلى إجراء خفض متوالٍ فى أسعار الفائدة، بغرض تحفيز النشاط الاقتصادى عبر حث المُستثمرين على الاقتراض، وضخ سيولة فى السوق، حتى بلغت مرات التخفيض 8 مرات مُنذ النصف الثانى من عام 2019، لينخفض مستوى الفائدة من 19.75% فى يوليو 2019 إلى مستوى 8.75% فى أبريل 2020، أى خفض بنحو 1100 نقطة أساس خلال أقل من عام ونصف، صاحب ذلك ارتفاع مُستمر فى مُعدلات التضخم بداية من أكتوبر 2019 بعدما كانت قد استقرت عند مستوى 8.5%، لتبلغ بحلول أبريل 2020 مستوى 10.9%. ويعنى ذلك تحول مُعدل الفائدة الحقيقى -حاصل طرح مُعدل الفائدة من مُعدل التضخم- إلى السالب، الأمر الذى يُفضى لخسائر بالنسبة للمُستثمرين فى أدوات الدين الحكومى الأجانب والمُودعين بشكل عام فى قطاع البنوك التُركى .
وذكرت الدراسة أن تحول مُعدلات الفائدة الحقيقية إلى السالب بمقدار الفرق بين مُعدلات الفائدة ومُعدلات التضخم ، وذلك بداية من شهر يناير 2020 عندما ارتفعت مُعدلات التضخم إلى مستوى 12.15% وانخفضت مستويات الفائدة إلى 11.25%. وقد أدى ذلك إلى انسحاب حوالى 76 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية مُنذ فبراير 2019، سواء فى شكل استثمارات الحافظة أو استثمارات أجنبية مُباشرة لعدم تحملها هذه الخسائر، بالإضافة إلى عدم اليقين الذى يلفّ السياستين المالية والنقدية، وكذلك المُعضلات الهيكلية التى يُعانيها الاقتصاد التُركى، وأخيرًا هروب هذه الاستثمارات إلى الملاذات الآمنة مثل الدولار والذهب وغيرها بسبب جائحة كورونا،
واوضحت الدراسة ان هذه الكميات الضخمة من النقد الأجنبى ضغطًا هائلًا على الاحتياطى النقدى للبنك المركزى فى ظل تدنى مصادر تدفقات النقد الأجنبى للداخل التُركى، سواء من السلع بسبب ارتفاع الواردات فى مُقابل الصادرات، أو حتى من الخدمات بسبب انخفاض السياحة والنقل الجوى والصيانة وغيرها المُغلقة بسبب الجائحة، مما أسفر فى النهاية عن انخفاض سريع فى حجم الاحتياطى النقدى من العُملات الأجنبية إلى مستوى 51.4 مليار دولار ومستوى 86.24 مليار دولار إذا تضمن ذلك التقدير احتياطيات الذهب بحلول الأول من مايو 2020، وذلك من مستوى 107.8 مليارات دولار فى نهاية فبراير من العام ذاته. وقد راكم ذلك تأثيرًا حادًّا على الليرة التُركية بسبب ارتفاع الطلب على الدولار من الاستثمارات المُنسحبة، والتخلى عنها فى السوق المحلية، وفى الوقت ذاته عدم قُدرة البنك المركزى على تعويض هذه الضغوط الطلبية من رصيده من العُملات الأجنبية، بل ولجوئه إلى إجراءات قانونية للحد من هبوطها مثل اعتبار بعض عمليات تجارة العُملة ومبادلتها جرائم تلاعب بالعملة، واتهامه -من جانب آخر- مؤسسات مالية فى لندن بمُحاولة التلاعب بالعملة التُركية، ثم أعقب ذلك بمنع المُتعاملين المحليين من تبادل العُملات مع بنوك: CITI، UBS، BNP. كما لجأ -من جانب آخر- إلى طلب تبادل عملاته مع بعض دول مجموعة العشرين، ومطالبة الولايات المُتحدة من ناحية أخرى بتوفير خط ائتمان من الفيدرالى الأمريكى إلى المركزى التُركى. لكن هذه المساعى لم يُثمر أى منها ولا يتوقع لها فى الغالب أن تنجح بسبب تدهور العلاقات الخارجية للرئيس التُركى مع الأوروبيين والأمريكيين والمصاعب التى تمر بها هذه الدول بسبب الجائحة.
لقد أفقدت هذه الإجراءات غير النقدية عددًا كبيرًا من المُستثمرين القدر الباقى من ثقتهم فى الليرة، وهو ما أسفر عن مزيد من التخلى عنها فى مُقابل الدولار لتنخفض إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق فى السابع من مايو الجارى لتصل إلى 7.26 لكل دولار مُتجاوزة بذلك أدنى مُستوى لها فى ظل أزمتها الحادة عام 2018.
ويبدو أن الأزمة الحالية أعمق فى تأثيرها على الليرة من الأزمة السابقة، وذلك لاختلاف طبيعة الأزمتين فى الأساس، حيث كانت الأولى أزمة مالية، ناتجة عن اختلالات هيكلية فى ميزان المدفوعات التُركى لفترات طويلة، مُضافًا إليها مُراكمة القطاع الخاص التُركى كميات ضخمة من الدين، لكن الأزمة الحالية هى أزمة اقتصاد حقيقى ضربت أساسات الاقتصاد التُركى، وكُلما طالت زاد هذا
وأكدت الدراسة إن الاقتصاد التُركى يُعانى جراء أزمة كورونا تراجع مؤشراته الكُلية نتيجة للإغلاق الواسع للنشاط الاقتصادى، وهو ما ترتب عليه انخفاض مُعدلات النمو وارتفاع مُعدلات البطالة، ما دفع البنك المركزى التُركى إلى خفض مُعدلات الفائدة بمقدار 1100 نقطة أساس فى أقل من عام ونصف، وهو ما ترتب عليه انسحاب كميات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية بلغت نحو 76 مليار دولار خلال عام، الأمر الذى سبب ضغطًا هائلًا على الاحتياطى النقدى للبنك من العُملات الأجنبية، بسبب التخلى عن الليرة مُقابل الدولار، لتنتج كل العوامل السابقة فى النهاية انخفاض الليرة إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق أمام الدولار، ومن المتوقع أن تزداد التأثيرات نفسها كُلما استمرت الأزمة.