استمرت تحقيقات النيابة مع الكاتب خالد محمد خالد، خمس ساعات على يومين، وكانت حول كتابه «من هنا نبدأ» وحقيقة اتهامه من الأزهر بالخروج عن الدين وإهانة العلماء، بتسميتهم «الكهنة»، واتهامه بالشيوعية، والحض على كراهية النظام، حسبما يذكر فى مذكراته «قصتى مع الحياة»، مؤكدا أن النيابة قررت مصادرة الكتاب، وأن البوليس هاجم المكتبات العامة وباعة الصحف وجمع نسخه من الأسواق، غير أن ذلك ساهم فى ارتفاع توزيعه وتوالى طبعاته سرا، وكانت الطبعة تنفذ خلال يومين أو ثلاثة.
صادرت النيابة الكتاب بناء على طلب من لجنة الفتوى بالأزهر التى أعدت تقريرا حوله، اتهمت فيه المؤلف بتعديه علنا على الدين الإسلامى، وأنه حبذ وروج علنا مذهبا يرمى إلى تغيير النظم الأساسية للهيئة الاجتماعية بالقوة وإرهاب ووسائل أخرى غير مشروعة، وحرض علنا على بعض طائفة من الناس، وهى طائفة الرأسماليين والازدراء بها تحريضا من شأنه تكدير السلم العام.
يذكر خالد، أن ردود الفعل تنوعت على الكتاب بين مؤيد ومعارض..كتب الشيخ محمود شلتوت، ولم يكن شيخا للأزهر، مقالا على صفحة كاملة عنوانه: «هذا الكتاب يلقى ثلث القرآن فى البحر»، وكتب الدكتور أحمد الشايب الأستاذ بكلية دار العلوم: «أنه علم أننى- خالد- قبضت من السفارة السوفيتية عشرة آلاف جنيه».. يضيف: «نُسب إلى مفتى الديار المصرية الشيخ حسنين مخلوف، أنه علم أن الكتاب تم تأليفه فى السفارة الأمريكية، التى أجهدت نفسها فى البحث عن عالم أزهرى يضع اسمه عليه كمؤلف له، فأعياها البحث حتى عثرت علىّ «خالد» وقبضت عشرة آلاف دولار أمريكى، وألف محمد الغزالى كتابا مضادا: «من هنا نعلم»، وعلى الجانب الآخر دافع عن الكتاب «سلامة موسى» و«محمد خطاب» عضو مجلس الشيوخ وكامل الشناوى وحفنى محمود باشا».
يؤكد خالد أنه نفى فى تحقيقات النيابة الاتهامات الموجهة إليه، وبعد أيام تحددت جلسة المحاكمة، وكانت سرية والسبب كما يقول: «الأمن علم أن بعض شباب جماعة الإخوان سيحضرون الجلسة ويثيرون فيها شغبا، وانعقدت المحاكمة فى مكتب رئيس محكمة مصر الابتدائية المستشار «حافظ سابق» يوم 27 مايو، مثل هذا اليوم، عام 1950»..يضيف:«تطوع المحامى عبد المجيد نافع بالدفاع، وكان خطيبا من أرفع طراز، ويرى فى نفسه أنه كان الأحق بزعامة الأمة وقيادة ثورة 1919 من سعد زغلول».
يتذكر خالد، أن «نافع» وقف فى المحكمة يدحض الاتهام كله، ويطالب بوسام للمؤلف، وبالرغم من أن مكتب رئيس المحكمة كان محدود المسافات طولا وعرضا فإن المحامى أطلق العنان لصوته وهو يقول: «إنى أرى شبح الحكومة الدينية التى حذرنا منها هذا الكتاب النذير يلمع فى الأفق» وضرب المكتب الذى أمامه بقبضة يده ضربة فزع منها رئيس المحكمة ذاته».
وقررت المحكمة الإفراج عن الكتاب وبراءة مؤلفه مما نسب إليه، وقال رئيس المحكمة فى حيثيات حكمه، إن المؤلف لم ينكر ركنا من أركان الدين، ولم ينتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال صراحة، إن مقام الرسالة أرفع مقام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحس إحساسا واضحا بمهمته ويعرفه حق معرفة وهى أنه هاد وبشير، وليس رئيس حكومة ولا جبارا فى الأرض، وهو مؤيد كذلك بقوله سبحانه وتعالى: «وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا».. وأضافت الحيثيات أن المؤلف لم يطعن فى الدين ذاته، ولم يجحد من كتاب الله وسنّة رسوله، وهو لم يخرج فيما كتب عن حد البحث العلمى والفلسفة.
وأكدت الحيثيات أن المؤلف لم يجحد الزكاة، ولم ينف أنها ركن من أركان الدين، وأنه لم يحقر الصدقة ذاتها بل حقر المسألة، وقال إنه لا يمكن معالجة حقوق الشعب فى الحياة بالصدقات،
وقالت الحيثيات إن المؤلف استعرض الحالة الاجتماعية فى البلد ونقض منها ما رآه خليقا بالنقض وحسن ما رآه حسن، لقد نقض المرجعية الاقتصادية والرأسمالية، وأفصح عما تعانيه غالبية الشعب من فقر وحرمان وما بدا عليها من تذمر، بينما قلة من الشعب تنعم بالثراء الوفير، وأضافت الحيثيات، أن المؤلف أورد فى كتابة ما يراه من ضروب الإصلاح ودعا إلى الاشتراكية الرشيدة، وقال إن هذه الاشتراكية هى التى تحقق العدالة الاجتماعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة