حيتان العالم تتقاتل فى "بِركة وحل"..
600 مليار دولار تجارة بينية لواشنطن وبكين توجه الموجة الأولى من العواصف المحتملة
- حرب العملات تفتتح جولات الصراع.. والنظام المالى الأمريكى وحدود النفوذ السياسى معوقات لإنجاز الخطة
- التداعيات الاقتصادية للوباء تعزز الضغوط على الأسواق والأنظمة المالية وتزيد محاولات تصدير الخسائر للآخرين
- سلاح الفائدة يرجح كفة الولايات المتحدة فى سباق اجتذاب الفوائض المالية وتمويل برامج الإنعاش
- مصالح الدول النفطية تقف حائلا أمام خطط بعض الدول لمواجهة الهيمنة الأمريكية على النقد العالمى
- الناتج الأمريكى المتجاوز لمجموع دول شنغهاى ومؤشرات الميزان التجارى للمتصارعين تقلل فرص حسم الصراع
- شبح اهتزاز الدولار يؤثر على كل الأسواق ويجبر خصوم واشنطن على تقويض الطموحات حفاظا على الأسواق
- أطماع التعافى والسيطرة وإعادة صياغة المنظومة تهدد بحرب باردة اقتصادية.. واحتدام المناوشات يُطيل أمد الارتباك ويوزع الخسائر على الجميع
آفاق تبدو غائمة، ومسارات مفتوحة على احتمالات عديدة، أقلها سوءا لا يخلو من مخاطر وأزمات. تلك خلاصة المشهد الراهن والتفاعلات العالمية الجارية على أرضية وباء فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19"، وما يُرتبه من أعباء وينتجه من ضغوط على كل الأطراف، مقابل محاولات حثيثة ومتنامية للإفلات غير المُكلف من هذا الحصار، واجتهاد قوى كبرى لتصدير مشكلاتها خارج حدودها الجغرافية ومناطق نفوذها السياسى والاقتصادى. هكذا تبدو الأزمة مرشحة للتصاعد، ولا أفق لتجاوزها حتى بانحسار الوباء أو القدرة على تحجيمه، إذ لن يمنع النجاح الطبى من استمرار الشحن وتعقد الصراعات، ولن يُقيد تطلعات المراكز الفاعلة دوليا لاستثمار الموقف، لا لتعويض خسائرها فقط، وإنما للتربح وتكبيد المنافسين كُلفة أكبر، ومن هنا تحديدا يندلع سياق الحرب المتشكل الآن، والمتوقع أن يتطور مستقبلا!
غادر فيروس "كوفيد 19" بيئة انتشاره الأولى فى مدينة ووهان الصينية، حاملا مسببات التوتر مع العدوى. منذ ما قبل ظهور أية حالات خارج الصين بدأ الخطاب السياسى بشأن الأزمة، ثم تصاعد لاحقا فى إطار حالة معلنة من الصراع المستجد تحت لافتة الوباء، بين طرفين متصارعين أصلا طوال شهور سابقة على أرضية اقتصادية وتجارية. ومع اشتداد حدة المناوشات بينهما، وتراكم التداعيات بما ألقته من أعباء مباشرة على الأسواق وبعض قطاعاتها الحيوية، دخلت على الخط أطراف أخرى، إما بالشراكة فى المعاناة، أو التطلع للهروب من الضغوط، أو التضرر المباشر جراء تحولات إقليمية وعالمية ناشئة على هامش الأزمة، أو مناصرة أحد المتصارعين والبحث عن منافذ لتصفية حسابات قديمة وعالقة. إجمالا يزداد المشهد تعقدا بشكل طردى، ولم تُفلح لافتة التضامن الإنسانى فى تجفيف مستنقع الصراع الآخذ فى الامتلاء، أو إنهاء مصارعة الحيتان فى بِركة الوحل التى تركت، وما تزال، آثارا واضحة على كل الوجوه!
المشهد الآن أقرب إلى صخرة رسوبية متعددة الطبقات. فى قطاع منها يتواصل انتشار الفيروس وتصاعد المخاطر الصحية، وفى أخرى تداعيات متنامية بشأن الإنتاج والتجارة والوظائف والمالية وسلاسل الإمداد، وفى الثالثة صراعات جزئية يحاول أطرافها استثمار الأزمة فى تدعيم مواقفها ومناطق نفوذها من جانب، وتقويض مصالح وامتدادات المنافسين على جانب آخر. خطورة هذا الوضع تتصل بتأثيرات الصراع على جهود تحجيم الوباء، واتصال الآثار السلبية وضغوط الانكماش وتآكل قدرات الأسواق، وأخيرا ازدهار محاولات تصدير الأزمات، وتداول المشكلات الداخلية والخارجية بين الدول المتصارعة بدلا عن تداول الحلول!
مسلسل طويل من تسييس الوباء
سُجّلت أولى حالات العدوى البشرية فى ووهان أوائل ديسمبر الماضى، وأرجعت تقارير فى منصات إعلامية دولية بداية الأمر إلى نوفمبر، لكن بكين لم تعلن الأمر رسميا إلا منتصف يناير الماضى، وهو ما رآه البعض غموضا مقصودا، وقال آخرون إنه كان سببا فى تفاقم الأزمة عالميا، وتقويض فرص الحصار المبكر للمرض قبل تطوره إلى وباء عالمى. الصين من جانبها نفت سوء النية أو التعتيم على الفيروس، وشددت على أنها أتاحت المعلومات المتوافرة لديها وأخطرت منظمة الصحة العالمية بمجرد امتلاكها مؤشرات واضحة عن المشكلة. بعيدا من تلك التجاذبات بشأن الفيروس المستجد والنقطة الدقيقة لبدء حالة الانتشار المجتمعى، فإن الموقف قد تأسس منذ بدايته على ركائز سياسية، ربما مرجعها قلق بكين من تأثيرات الذعر على هياكلها الاقتصادية، أو لخوفها من توظيف المحنة سياسيا من جانب خصومها، وللأسف فقد تحقق الأمران سريعا.
تكبدت الصين خسائر اقتصادية قاسية، مع اضرارها لإغلاق ووهان بما تمثله من قيمة إنتاجية وبحثية، فضلا عن تأثيرات الإغلاق الجزئى وتقليص مستويات العمل والإنتاج فى مراكز أخرى بارزة بالدولة. وفى المقابل بدأت وسائل إعلام عالمية بث تقارير تشتمل على سرديات ليست مغايرة للرواية الصينية فقط، وإنما تتهم بكين تلميحا وتصريحا بالمسؤولية عن الأمر والضلوع المباشر فى تفاقمه. لم يكن مُستبعدا منذ البداية انطلاق تلك المعالجات من أرضية سياسية، وتأكد الأمر لاحقا بدخول الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على الخط، ووصفه كورونا المستجد بـ"الفيروس الصينى" أكثر من مرة، سواء فى تغريدات أو مؤتمرات وتصريحات علنية.
ظل ترامب على موقفه هذا طيلة نحو ثلاثة أشهر، وتصاعدت وتيرة الاتهامات مع وصول الفيروس للولايات المتحدة، وتصدرها السريع لقائمة الدول المنكوبة بالوباء، بأكثر من ثلث الإصابات والوفيات تقريبا. فى تصريحات مساء الخميس الماضى، قال الرئيس الأمريكى إنه اطلع على تقارير تؤكد انطلاق الفيروس من مختبرات ووهان، ليرد الوزير المفوض فى سفارة بكين بالقاهرة مؤكدا أننا فى وقت تضامن لا تنمّر، وأن الفيروس عدو للبشرية بكاملها وليس مناسبة لهجوم لا أساس له على الصين، وفى المسار ذاته أكد متحدث الخارجية الصينين جينج شوانج أن المختبر "غير قادر على خلق فيروسات كورونا ولم يفعل ذلك أبدا"، منتقدا تصريحات السياسيين الأمريكيين الرامية لتحميل بلاده مسؤولية الوباء، وداعيا إياهم لقضاء الوقت فى البحث عن حلول للسيطرة على المشكلة.
لم تُغفل الصين الفرصة نفسها، إذ تواترت اتهامات على ألسنة عدد من مسؤوليها بشأن تجارة الولايات المتحدة بالمحنة ومساعيها لاستغلال الأمر تحقيقا لأطماع تتصل برؤيتها للسيطرة على العالم. وعزز موقف بكين السياسى ما تداوله الإعلام الأمريكى فى هذا الشأن، إذ قالت صحيفة نيويورك تايمز إن مسؤولين أمريكيين ضغطوا على الاستخبارات للبحث عن أدلة تعزز فرضية نشوء كورونا وانتشاره من مختبر فى ووهان، وأوردت واشنطن بوست عن مصادر بالبيت الأبيض، أن مسؤولين كبارا بدأوا استكشاف ووضع خطط لإقرار تدابير عقابية بحق الصين، أو مطالبتها بتعويضات مالية، تأسيسا على الاتهام الأمريكى لها بالتسبب فى انتشار الفيروس وتحوله لوباء عالمى.
جولة على هامش الحرب التجارية
تبادل الاتهامات بين واشنطن وبكين أعاد العالم إلى أجواء الحرب التجارية، التى اندلعت بين البلدين صيف العام 2018. كانت المحطة الأولى للصراع وقتها من تصريح ترامب بتربح الصين على حساب بلاده، وانتهاكها لحقوق الملكية الفكرية فضلا عن تورطها فى ممارسات غير عادلة. خلال تلك المرحلة دارت المعركة حول نحو 600 مليار دولار من التجارة البينية، وتبادل البلدان فرض رسوم جمركية إضافية وصلت إلى 25% على أكثر من 200 مليار دولار. حديث البيت الأبيض الآن عن المطالبة بتعويضات عن كورونا، أو فرض عقوبات لن تخرج فى الغالب عن حيز القيود التجارية أو الرسوم الجمركية أو تقييد السلع والمعاملات المالية، يعيد الصراع السياسى المحتدم بشأن الوباء إلى أرضية الحرب التجارية، ليضع 500 مليار دولار من الصادرات الصينية للولايات المتحدة، و125 مليارا تتدفق فى الاتجاه المعاكس، فى مواجهة الموجة الأولى من مخاطر تلك المناوشات، مع احتمال أن يتطور الأمر ويُلقى بظلاله على قطاعات، بل ودول أخرى.
نظريا، تملك الولايات المتحدة آليات عديدة للضغط على الصين، أولها الميزان التجارى الذى يميل لصالح الثانية بنحو 375 مليار دولار تقريبا، فضلا عن العقوبات غير المباشرة التى تطال أسواقا أساسية لبكين، مثل إيران وفنزويلا اللتين تشكلان أغلب مواردها النفطية، تُضاف إلى ذلك سطوة واشنطن العملية من خلال هيمنة الدولار على مجمل التجارة العالمية، أو انكشاف أغلب مصارف الصين وحلفائها على النظام المالى الأمريكى. لكن فى المقابل لا تعدم بكين وسائل الرد والمناورة، سواء عبر تنشيط تحالفاتها الإقليمية والعالمية فى إطار منظمة شنغهاى أو مبادرة الحزام والطريق أو تحالفاتها الأفريقية المتنامية، أو استثماراتها المباشرة فى السندات الدولارية، أو نسبة العملة الأمريكية من سلة احتياطيها النقدى، وأخيرا إمكانية اعتماد عملات أقل صلابة فى التداول التجارى مع الأسواق الرئيسية والدول الشريكة.
خارج تلك الاحتمالات وما توفره من توازن هش للقوى لدى البلدين، خاصة مع تشابك الخيوط بالدرجة التى تهدد بتضرر كل طرف حال قرر استخدام أدواته ضد الآخر، فإن الأمر لا يخلو من مؤثرات خارجية يمكنها توجيه دفة الصراع. ضمن حزمة التداعيات الناتجة عن الوباء، فقدت أسواق النفط جانبا من عافيتها، وبدا الموقف أكثر إرهاقا بالنسبة لشركات النفط الصخرى الأمريكية، مع تراجع تسويات عقود مايو قبل عشرة أيام إلى سالب أربعين دولارا للبرميل، وفقدان مزيج برنت وسلة أوبك نحو ثُلثى قيمتهما بالقياس إلى مستويات التسعير حتى أواخر العام 2019.
يصعب على الشركات الأمريكية العمل واستدامة الإنتاج والاستكشاف عند مستوى أقل من 50 دولارا للبرميل، بالنظر إلى كُلفة إنتاج النفط الصخرى المرتفعة، وفى المقابل فإن واشنطن قد تستشعر أن الأزمة التى تتهم الصين بالتسبب فيها، أفادت التنين الآسيوى الذى يستهلك قرابة سبعة ملايين برميل نفط يوميا، ما يعنى توفير نحو ثلثى إنفاقها على الطاقة، وتخفيض معادلة الأعباء بشكل يعزز قدرتها على إدارة تسعير منتجاتها بصورة أكثر تنافسية وإضرارا بالآخرين، وبالتوازى فإن مصالح الدول النفطية الكبرى تنسجم مع الرؤية الأمريكية، ما قد يقود إلى تفاهمات للبحث عن مخارج عاجلة واستعادة عافية الأسواق. السعودية نموذجا وضعت موازنة العام الجديد بسعر استرشادى 61 دولارا للبرميل وموارد إجمالية 190 مليار دولار، والأوضاع الراهنة حال استمرارها تعنى تآكل نحو 100 مليار من تلك التدفقات، والأمر نفسه يتكرر مع باقى اللاعبين من أوبك وخارجها، وهو مسار يُمكن أن يدعم التصور الأمريكى ولو بصورة غير مباشرة، ويخلق ضغوطا إضافية على الصين، جزئيا بإجراءات تصحيحة لموازنة العرض والطلب وترقية الأسعار، وكليا بترتيب أولويات تلك الدول وإعادة توجيه حصة من إنفاقها، بشكل قد ينعكس على إجمالى تعاملاتها مع بكين.
منظمة شنغهاى والآمال المعلقة
حاولت الولايات المتحدة فى موقفها تجاه الصين، تجييش الحلفاء واستعداء أطراف دولية ضد خصمها الاقتصادى تحت ستار الوباء. التصريحات السياسية سعت عبر الهجوم المباشر، ودمج المنصات الإعلامية ضمن مكونات هذا الخطاب، إلى بلورة وترويج رأى عام مضاد لبكين، وتزامن ذلك مع خطوات للتقارب مع الحلفاء أو توجيه مساعدات عاجلة لبعض الدول المنكوبة. فضلا عن اتهام منظمة الصحة العالمية بالتواطؤ مع الصين والتهديد بتجميد حصة الولايات المتحدة السنوية التى تشكل النسبة الأكبر من ميزانيتها. فى مقابل ذلك فتش التنين الآسيوى أوراقه بحثا عن حلفاء محتملين فى تلك المعركة، حتى استقر على خوضها من خلال منظمة شنغهاى للتعاون، التى تشكل نحو نصف سكان العالم وربع ناتجه الإجمالى.
خلال مارس الماضى قررت دول المنظمة اعتماد العملات الوطنية فى التداول التجارى والاستثمار وإصدار السندات، من خلال آلية التسوية المتبادلة العملات المحلية، فى خطوة بمثابة اتجاه واضح لفك الارتباط مع الدولار داخل تلك السوق الواسعة، بما يعنى تقليص هيمنة العملة الأمريكية على إجمالى المعاملات المالية والتجارية حول العالم. الخطوة بالضرورة ستُثير حفيظة واشنطن، وقد تعتبرها بمثابة إعلان حرب مباشرة عليها، تُضاف إلى تعقيدات الحرب التجارية والسياسية مع بكين، حتى لو كانت إمكانات المنظمة الفعلية وما تملكه من أوراق أقل من الحد الذى يسمح بإعادة صياغة المنظومة القائمة، أو حتى تغيير بعض مكوناتها.
رغم ضخامة أسواق دول المنظمة التى تضم 8 أعضاء، إضافة إلى 4 مراقبين و6 شركاء حوار، وميراثها المشترك سواء منذ تأسس مجموعة شنغهاى الخماسية فى أبريل 1996، أو توسعها إلى الهيكل الحالى منذ يونيو 2001، إلا أن التعمق فى خريطة القوى وتوازناتها بين المنظمة وواشنطن قد يحمل مؤشرات مغايرة. إذ يبلغ الناتج الأمريكى نحو 20 تريليون دولار متفوقا بفارق كبير على مجموع دول شنغهاى البالغ ناتجها 16.5 تريليون تقريبا، بواقع 12 للصين، و2.6 الهند، و1.5 روسيا، و302 مليار لباكستان، و159.4 لكازاخستان، و63 مليارا لأوزبكستان، و9.2 و7.4 مليار لكل من طاجيكستان وقيرغيزستان على التوالى بحسب أرقام الأمم المتحدة 2017.
إذا أضفنا المراقبين وشركاء الحوار يصل ناتج الجول الثمانى عشرة إلى نحو 18 تريليون دولار بنسبة 90% من الناتج الأمريكى. إلى ذلك تملك الصين سندات دولارية بـ1.3 تريليون دولار، واحتياطيا إجماليا 3.1 تريليون أغلبه بالدولار. وتملك روسيا سندات بـ10 مليارات واحتياطيا بـ460 مليارا، والهند 405 مليارات، وباكستان 22 مليارا، وأوزبكستان 15، وقيرغيزستان مليارين، وطاجيكستان 494 مليون دولار. ويأتى المراقبون بالترتيب: إيران 94 مليار دولار، وأفغانستان 6.2 مليار، وبيلاروسيا 4.8 مليار، ومنغوليا 1.1 مليار، وشركاء الحوار: تركيا 111 مليارا، ونيبال 8 مليارات، وكمبوديا 7.4 مليار، وسريلانكا 6.3 مليار، وأذربيجان 4 مليارات، وأرمينيا 1.8 مليار. ويميل الميزان التجارى مع كل تلك الدول، باستثناء الصين والهند، لصالح الولايات المتحدة. وبفضل تلك المؤشرات تبدو الكفة مائلة لصالح واشنطن، خاصة مع انكشاف دول المنظمة على النظام المالى الأمريكى، واحتياجها جهازا مصرفيا جديدا لإنجاز تطلعات فك الارتباط، ما يجعل الأمر فى حيز الآمال المعلقة، على الأقل فى المدى الوشيك!
الصراع فى "بِركة وحل"
محاولة منظمة شنغهاى على صعوبتها، تُشير إلى اتجاه الصراع، أو الحرب الاقتصادية الباردة فى المستقبل القريب. قد لا يغامر أى من المتصارعين بالصدام القوى على ملعب الاقتصاد الحقيقى، ما يجعل المنظومة الورقية ساحة محتملة عبر حرب العملات أو الأوراق المالية. لكن حتى تلك الصيغة تظل مرهونة بقدرات الأطراف جميعا، وتحكمها هيمنة النظام المالى الأمريكى، وسطوة الدولار، ونفوذ واشنطن فى المؤسسات الدولية وعشرات الأسواق الإقليمية حول العالم، حتى داخل هيكل منظمة شنغهاى، الأمر الذى يُعقد هذا السيناريو ويُقوض فرص نجاحه.
حتى مع احتمالية فك الارتباط فإن الصعوبات لن ترحم تلك الدول. الصين وحدها ستكون المستفيد المباشر من تلك الخطوة، لكن فى المقابل فإن باقى الدول ستعانى تراجعا فى قيمة عملاتها دون امتلاكها قاعدة إنتاجية وتجارية تستفيد من تلك الفرص التنافسية، ما يعنى تكبد الأعباء بدون أية مزايا، فضلا عن زيادة كُلفة الواردات والاقتراض، وتآكل جانب من قيمة الفوائض والمدخرات المقومة بالعملات المحلية، وارتفاع فاتورة الطاقة بالنظر إلى هيمنة الدولار على تسعير النفط، كما أن الأسواق ستصبح عُرضة للتقلبات المالية بدرجة أكبر، مع تأثيرات محتملة على تدفقات الاستثمار المباشر تأسيسا على تقييد إمكانية تحويل أرباحها للدولار أو ضخها فى المنظومة المصرفية العالمية، فى ظل الاحتياجات الرأسمالية وتعدد بيئات العمل وتراجع جاذبية العملات المحلية وازياد فرص الخطر الواقعة عليها.
ملمح آخر قد يثير مخاوف سلبية بشأن تلك الرؤية، فمع تجاوز آثار الوباء وسعى كل الدول لتنشيط الأسواق وتعويض الخسائر، سيزداد السباق على اجتذاب الفوائض المالية من خلال أدوات الدين الحكومية. الولايات المتحدة ستكون أقدر على امتصاص القدر الأكبر بفضل ارتفاع الفائدة، مع إمكانية أن تلجأ واشنطن للمناورة بمزيد من التحريك الصاعد لها، وهو ما يغذى الطلب على السندات الأمريكية ويقلص فرص الدول الأخرى فى الوصول إلى احتياجاتها المالية العاجلة، أو يُكبدها مقابلا أكبر نتيجة النمو فى كُلفة الاستدانة. ومع احتمالات التقلب فى أسعار الصرف، أو عزل تلك الأسواق عن تفاعلات المشهد العالمى، ستتعاظم مخاوف المستثمرين بشأن المخاطر المحتملة من دخولها أو البقاء فيها، وهو الأمر الذى قد يخلق موجة طاردة تُفقد تلك الدول قدرا من الإنتاج والوظائف ومكونات النمو المحلى.
الأهم أن خطوة فك الارتباط تقود إلى مستوى من المرونة فى السياسات المالية وأسعار الصرف المحلية، لكن مع إدارة بعض تلك الدول لعملاتها وفق تحديد للسعر بمعزل عن تفاعلات العرض والطلب، فإن تلك الوضعية لن تكون تعبيرا حقيقيا عن قوة العملات الوطنية، وقد تتسبب فى مشكلات تجارية لاحقة بسبب غياب الآلية الضابطة التى يُمكن الاحتكام إليها فى تقويم العملات وحجم التوازن الفعلى بينها. سيبدو الأمر كما لو كان استبدالا للصراع مع الولايات المتحدة، بباقة صراعات بينية أقل حدة، لكنها ليست أقل تأثيرا على الأسواق أو تعويقا لها عن النمو الديناميكى المتفاعل مع السياق العالمى، والمستفيد منه أيضا.
حتى الآن ما تزال الولايات المتحدة المرجعية الأهم لخصومها، وتلك مفارقة قاتلة لفكرة الصراع منذ بدايتها، فمن جانب تبدو واشنطن السوق الأكبر للمنتجات الصينية بأكثر من نصف التريليون دولار، وفى الوقت نفسه فإنها أكبر حائز فى العالم للسندات الأمريكى والاحتياطى النقدى من الدولار، والأمر متكرر مع الحلفاء فى شنغهاى أو الرافضين للهيمنة الأمريكية من خارجها، ما يجعل اهتزاز وضعية الدولار أو قيمته مساسا مباشرا بثروات تلك الدول ومصالحها وما تملك من فوائض مالية، ويجعلها شريكا عضويا لواشنطن فى الدفاع عن عملتها، بما قد يجبرها على تقويض طموحاتها الشخصية، على الأقل فى الوقت الراهن! عافية الدولار أو اهتزازه ليسا فى صالح خصوم الولايات المتحدة، الذين يحوزون كميات ضخمة منه، أو تُقوّم صادراتهم به، أو يُديرون مسارات التمويل وخطوط الإمداد وخطط الاستثمار فى ضوء تحولاته فى أسواق الصرف!
ثقل الأزمة الناجمة عن الوباء يرهق الجميع من دون شك. ومع ضخامة الاحتياجات العاجلة لتجاوز تلك الآثار فى غضون الشهور المقبلة، سيكون السباق نحو العبور مركبا، أولا بالبحث عن التعافى السريع، ثم محاولة تعطيل المنافسين الأكثر إزعاجا، مع احتمالية ألا تكون الموارد العالمية المتاحة كافية لإنجاز حالة تعافٍ وتنشيط عامة، ربما لذلك تتبادل الولايات المتحدة والصين الاتهامات حاليا، وتدخل روسيا على الخط من خلال منظمة شنغهاى، فى مشهد يُعيد أجواء الحرب الباردة التى امتدت نحو نصف القرن منذ نهاية الحرب الكونية الثانية إلى تفكك الاتحاد السوفيتى، لكن تلك المرة على أرضية اقتصادية براجماتية، تتخذ الوباء ستارا لإدارة الصراع، وتحاول توظيفه أداة للنيل من الخصوم. واشنطن تُعجبها المنظومة القائمة لكنها تحاول إعادة صياغتها بما يزيح بكين وموسكو من واجهة مشهد المنافسة اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، والأخيرتان تتمردان على سياق يحتفى بالهيمنة الأمريكية المُعمّرة لأكثر من ثمانية عقود، وتحاولان ابتكار صياغة تضعهما فى المقدمة، أو تؤسس لمرحلة متعددة الأقطاب مؤقتا، إلى أن تكتمل إزاحة الغول الأمريكى مستقبلا. عمليا تبدو الأزمة أعقد من تصورات الطرفين، وتداعياتها تطال الجميع بالتساوى، بل إنها تتعمق وتزداد حدة مع احتدام المناوشات، ومحاولة كل طرف تصدير خسائره للآخرين، ما يُطيل أمد الارتباك ويجعل الأمر صراعا صفريا أو قتالا فى بِركة وحل، غالبا سينتهى بهدنة اضطرارية يخرج الجميع بعدها أحياء، لكنهم سيحتاجون وقتا طويلا لتنظيف ما ألقاه كل منهم على الآخر من اتهامات ومعوقات وأوساخ!