أكد الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، أن القرآن الكريم في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة والبيان ، وقد سمع الأصمعي فتاة تتكلم بكلام بليغ ، فقال: يا جارية ما أفصحك! قالت : وأية فصاحة وأية بلاغة بعد القرآن الكريم ، وقد جمع الله (جل وعلا) في آية واحدة بين : أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين ، حيث قال (تعالى): “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” .
وأضاف جمعة خلال برنامج :"في رحاب القرآن الكريم” بعنوان : " من أسرار البيان القرآنى 1 ":"وسمع أحد الأعراب قوله تعالى : ” وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” فانطلق قائلًا : أشهد أن هذا كلام رب العالمين لا يشبه كلام المخلوقين ، وإلا فمن الذي يأمر السماء أن تقلع عن إنزال الماء فتقلع ، ويأمر الأرض أن تبلع ماءها فتبلع ! ، إنه رب العالمين ولا أحد سواه ، وأيضًا لم تلبث الجن إذ سمعته أن قالوا : “ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا” ، ويقول الإمام عبدالقاهر الجرجاني (رحمه الله) عن القرآن الكريم :" وهو الكتاب الذي يهجم الحسن عليك منه دفعة واحدة ، فلا تكاد الألفاظ تصل إلى الآذان حتى تكون المعاني قد وصلت إلى القلوب" .
كما ذكر جمعة نموذجًا لبلاغة الكلمة القرآنية ، حيث يقول تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ "، فلو فتشنا ونقبنا في اللغة العربية على طولها واتساعها ، وحقولها الدلالية ، فلن نجد كلمة واحدة تقوم مقام كلمة الإصلاح وتسد مسدها ، فاليتيم قد يكون فقيرًا فيحتاج إلى الإطعام أو الكسوة أو المسكن أو نحو ذلك ، فيكون الإصلاح لليتيم أن يقام على إطعامه أو كسوته أو توفير المسكن اللازم له ، وقد يكون اليتيم غنيًا فلا يحتاج إلى طعام أو كسوة أو مسكن ، وإنما يحتاج إلى من يقوم على أمواله ويحافظ عليها وأن يستثمرها له ، وقد يكون اليتيم غنيًا وعنده من يقوم على رعايته واستثمار ماله وإنما يحتاج إلى الرحمة والحنو عليه ، فيكون الإصلاح له بالرحمة والحنو عليه ، والمعاملة الحسنة ، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) :" «مَنْ مَسَحَ رَأْسَ الْيَتِيمِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِهِ حَسَنَةً" ، وقد يحتاج اليتيم إلى التربية والتقويم والتعليم ، فيكون الإصلاح تقويمًا وتهذيبًا وتربية ، فحينما سأل رجل سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) مم أضرب يتيمي ؟ أي إن كنت مضطرا لتأديبه ، فقال (صلى الله عليه وسلم) :" مما كنت ضاربًا منه ولدك ، غير واق مالك بماله " ، فإصلاح اليتيم قد يكون في إطعامه وقد يكون في المحافظة على أمواله ، وقد يكون بتربيته وتهذيبه ، وقد يكون بالرحمة والحنو عليه ، يقول (صلى الله عليه وسلم) :" أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني السبابة والوسطى " ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) :" أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ، حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى أَيْتَامِهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا " ، ويقول سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " أنا أول من يفتح باب الجنة ، إلا أني أرى امرأة تبادرني ، فأقول لها : ما لك ومن أنت ؟! فتقول : أنا امرأة قعدت على أيتام لي " .
وبين وزير الأوقاف أن الفصاحة والبلاغة في القرآن الكريم كما تتعلق بالكلمة ، كذلك تتعلق بالحرف ومن نماذج هذا ، قوله تعالى :"وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ"، ثم يقول تعالى :"وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا..." ، فقد جاءت الآية الأولى في الحديث عن أهل جهنم جاءت كلمة ” فُتِحَتْ ” بدون واو، بينما جاءت في الحديث عن أهل الجنة ” وَفُتِحَتْ” مسبوقة بالواو ، قال بعض العلماء : إنها واو الحال ، والمعنى : جاءوا الجنة والحال أنها مفتوحة ، "جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ" ، وذلك من زيادة إكرام الله (عز وجل) لعباده المؤمنين ، وقال بعضهم : إن هذه الواو واو الثمانية ، ذلك أن بعض القبائل العربية كانت تقول العدد : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، فتأتي بالواو مع العدد الثامن ، ولهذا في القرآن الكريم نظائر ، منها : قوله تعالى في سورة الكهف: ” سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ " بدون واو في الموضعين :" وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ “ ، فجاءت الواو مع العدد الثامن ، ومنها : قوله تعالى في سورة التوبة : ” التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ” ، فجاءت الواو مع العدد الثامن ، ومنها قوله تعالى في سورة التحريم : ” عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ” ، فذكرت الواو أيضًا مع العدد الثامن ، وهي مع هذا تفيد الواو التنويع ؛ لأن النساء إما ثيبات وإما أبكارا .
واختتم وزير الأوقاف: "الحكمة من واو الثمــانية في قــوله تعالى : ” وَفُتِحَتْ ” في الحديث عن أهل الجنة دون قوله تعالى : ” فُتِحَتْ ” في الحديث عن أهل النار ، لأنّ أبواب النار سبعة لقوله تعالى : ” لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب لِكُلِّ بَاب مِنْهُمْ جُزْء مَقْسُوم “ ، أما أبواب الجنة فثمانية لقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ” ، فلما كانت أبواب جهنم سبعة لم يؤت معها بالواو ، ولما كانت أبواب الجنة ثمانية أُتي معها بالواو ، على لغة بعض القبائل العربية ، مشيرًا معاليه إلى أن كون أبواب الجنة ثمانية وأبواب جهنم سبعة ما يدل على أن رحمة الله (عز وجل) أوسع من غضبه ، يقول الحق سبحانه وتعالى : ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ”.، فإذا كان هذا خطاب الله تعالى لعباده المسرفين فما بالنا بخطابه لعباده المخلصين؟!.".