التاريخ هو أحد فروع العلوم الإنسانية التى تتناول نقل أحداث الماضى عبر الزمن لتصل إلى من لم يعاصروا تلك الأحداث، وقد اهتم الإنسان بأن يدون الأحداث كما هو مكتشف من نقوش فرعونية وبابلية واشورية توثق أحداثاً انتقلت عبر الزمن، وتطور التاريخ خلال القرون من مجرد التدوين إلى أن يأخذ شكل العلم من اتباع منهج علمى فى تحليل الأحداث والاثار وجمع لكافة ما تم كتابته وتدوينه وتقييمه والوصول إلى نسق مقبول من النتائج والتى إذا انتهت إلى الإجماع عليها أصبحت بمثابة ما يطلق عليه الحقائق التاريخية.
والتاريخ يتم قراءته فى إطار دراسات إلزامية سواء فى المدارس أو الجامعات كما يتم قراءته بشكل حر واختيارى من راغبى ومريدى التزود بالثقافة التاريخية، ولكن هل التاريخ يتم قراءته كحكاية أو حدوتة فى نسق روائى يقتصر على سرد وتسلسل الاحداث؟، اعتقد أن هذا خطأ كبير يقع فيه الغالبية، التاريخ ليس علم سرد روايات أحداث الماضى ولا يمكن ان يقتصر على ذلك فلعلم التاريخ غاية أكبر وأعظم ألا وهى التدبر والتحليل وعرض التجارب السابقة لاستخلاص دروس نستفيد منها فى تجربتنا الحالية والتى سوف تصبح لأجيال قادمة تاريخاً يقرأوه ليتسفيدوا منه.
فهناك منهجية ثابتة لدراسة الظواهر تقوم على فرضية مؤداها " أن الماضى يفسر الحاضر ويساعد على التنبوء بالمستقبل" وبذلك فإن هذه الفرضية يجب أن تشكل الغاية التى من أجلها يتم قراءة ودراسة التاريخ، فعند راسة الظواهر الاجتماعية على اختلافها ثقافية أو سياسية أو اقتصادية وتصدى الباحثين فيها لتفسير ما تمت ملاحظته فى الوضع الحالى للظاهرة محل الدراسة يشكل الاستقراء التاريخى والنظرة الثاقبة عبر الزمن أساساً فى تفهم التطورات والتغيرات والهياكل المختلفة لتفهم الأسباب والمقدمات وتحديد المتغيرات ذات التأثير على تلك الظاهرة.
ففى علم السياسة على سبيل المثال يمثل التاريخ حجر الزاوية فى تفهم خلفية العلاقات بين الدول والتكتلات والأحلاف السابقة، كما يوفر التاريخ دروساً مستفادة فى نظام الحكم ويوفر مزيجاً من التجارب السابقة التى توفر لرجل السياسة من الاطلاع عليها خبرات واسعة تتعدى سنوات عمر القارئ لتضيف إليه سنوات عمر سابقيه ممن يقرأ تاريخهم وتجاربهم السياسية وقصص نجاحهم وإخفاقهم أو ليس من يقرأ تاريخ سقوط دولة المسلمين فى الأندلس ويتدبر فيه ليعرف أن التناحر على السلطة فيه سقوط للدولة وأن استقواء أبناء الوطن الواحد - فضلا عن كونهم أبناء عمومة- بالقوى الخارجية ممثلة فى ملوك فرنسا وأسبانيا كان مآله إلى ضياع الملك والدولة بأكلمها إن هذا ما هو إلا درس ضمن دروس عدة يتضمنها التاريخ.
أما فى علم الاقتصاد فإن الاستقراء التاريخى للظواهر الاقتصادية يمثل أحد منهجيات البحث لتفسير الظواهر الاقتصادية، كما ان عرض التجارب السابقة لتطبيق السياسات الاقتصادية يوفر دليلاً استرشادياً لصانع السياسة الاقتصادية، فعلى سبيل المثال كانت سياسة الخديوى اسماعيل التوسعية التى انتجت تنمية ظاهرية مستندة على الديون الخارجية والتى أدت إلى تراكم الديون بداية لزيادة التدخل الأجنبى فى مصر لينتهى الحال بإجبار الحكومة المصرية على أن يكون وزير المالية أجنبياً من الدول الدائنة وهو درساً يمدنا به التاريخ لإدارة السياسات الاقتصادية والحذر فى استخدام أدوات الدين، كما أن حرص المؤسسات الدولية ممثلة فى صندوق النقد الدولى والبنك الدولى على توثيق برامج الإصلاح الاقتصادى وإعادة الهيكلة التى خاضتها عدة دول على مدار الثلاثون عاماً الأخيرة بمثابة تاريخ لتجارب الإصلاح يستفيد منه صانع السياسة الاقتصادية المقدم على خوض تجربة الإصلاح الاقتصادى.
أما فى علم الاجتماع فإن دراسة تاريخ المجتمعات توفر للباحث فى الظواهر الاجتماعية مراحل تطور المجتمعات والبوادر الأولى للتغيرات الاجتماعية والتركيبات الاجتماعية ومدى تقبل أو رفض المجتمع للأفكار والمبادئ الاجتماعية التى يتم طرحها، اليس حدثاً تاريخياً كالاستعانة بجنود من وسط آسيا فى عصر الدولة العباسية الثانية شكل طبقة اجتماعية عرفت من هؤلاء الجند سميت فيما بعد بالمماليك وشهدت هذا الطبقة حراكاً اجتماعياً فأكسبت المجتمع عادات جديدة ومسميات للأشياء مختلفة عن قبل ، أو ليس مثلا تناول فكرة تعليم وخروج المرأة المصرية وما دار بصدد تلك الفكرة من مجادلات ورفض وتأييد وما انتهى إليه الأمر بحق المرأة فى التعليم والعمل، ألا يعد ذلك إشارة يمكن معها التنبوء بما حدث خلال العقود التالية من طرح تلك الفكرة من تزايد دور المرأة فى المجمتع والقوى العاملة، وكذا التغيرات التى لحقت بالبيئة التشريعية والقوانين لتمنح المرأة مزيداً من الحقوق والتى كانت لا تتمتع بها من قبل، وهنا كان الاستقراء التاريخى الدقيق لبدايات طرح فكرة تحرر المرأة والمطالبة بحقها فى التعليم والعمل دليلاً على تغيرا اجتماعياً.
ونهاية فإن هناك غاية عظيمة لقراءة التاريخ ألا وهى الأخذ بالقدوة الحسنة وقصص النجاح الخاصة بالشخصيات التاريحية سواء عند السن الصغير كطلبة المدارس والشباب فسيرة شخصيات مثل أحمس وعمر بن الخطاب و لينكولن و غاندى وغيرهم تمثل جذوة للمبادئ الحسنة والطموح والإصرار على النجاح وتحدى الصعاب، أوليس ذلك قد يوفر لهؤلاء الشباب والمراهقين دافعاً نحو التميز وطاقة دافعة لمواجهة صعاب الحياة؟.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة