- العقيلى أكد ضعف ما رواه البخارى عن «همام بن يحيى».. و«الإسماعيلي» يكتب «مستخرجه» وينتقد حديث إبراهيم وأبيه آزر
رحل الإمام البخارى فى عام 256 هجرية وترك خلفه إرثًا مهمًا لم يتجاهله أحد، ففى صحيحه واعتمادا على كلام ابن حجر العسقلانى «إنه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات (7397) حديثًا، والخالص من ذلك بلا تكرار (2602) حديثًا، وإذا أضيف إلى ذلك المتون المعلقة المرفوعة وهى (159) حديثا فمجموع ذلك (2761)، وعدد أحاديثه بالمكرر والتعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082) حديثًا، وهنا وجبت الإشارة إلى أن ما تعرض من نقد فى هذه الأحاديث عدد قليل، لكنه إشارة مهمة إلى أن هذا الكتاب «بشرى» كتبه بشر ويجب أن نواصل قراءته كذلك، ولنا فيمن سبقنا أسوة.
فقد جاء بعد الإمام البخارى جيل من المحدثين العارفين بقيمته وقيمة كتابه، تعاملوا معه بصفته كتابًا خط بيد بشر، لذا اختلفوا معه فى بعض ما ورد فى صحيحه، ومن هؤلاء العلماء:
الإمام مسلم (ت261)
يعرف أهل الحديث والباحثون فى التراث الإسلامى أن الإمام «مسلم بن الحجاج» صاحب الكتاب الشهير فى علم الحديث «صحيح مسلم» الذى عاش فى الفترة بين عامى (206 – 261 هـ) هو أنجب تلاميذ الإمام البخارى وأنه لم يتخل عنه فى محنته لكنه اختلف معه فى منهج البحث.
يقول ابن خلكان فى كتابه (وفيات الأعيان) فى الجزء الرابع، وقال عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخارى نيسابور أكثر «مسلم» من الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخارى ما وقع فى مسألة اللفظ نادى عليه ومنع الناس من الاختلاف إليه حتى هُجِّر وخرج من نيسابور، فى تلك المحنة قطعه أكثر الناس غير «مسلم»، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فنُقل إلى محمد بن يحيى أن «مسلم بن الحجاج» على مذهبه قديمًا وحديثًا، وأنه عوتب على ذلك بالحجاز والعراق ولم يرجع عنه.
ومع ذلك فقد اختلف منهج الإمام مسلم عن بعض سمات منهج الإمام البخارى ومن ذلك:
صحيح مسلم
الموقوفات فى صحيح مسلم
المقصود بالحديث الموقوف، هو ما يروى عن الصحابة من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها فيوقف عليهم ولا يتجاوز به إلى رسول الله.
والموقوفات عند «مسلم» أقل من التى وردت فى «صحيح البخارى» ثم إن معظمها أوردها الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه، لا فى أصله، وغالب ما أورده من الموقوف يتعلق بمسائل رواية الحديث، ومعظم ما أورده خارج المقدمة يتعلق بمناسبات ورود أحاديث مرفوعة.
وقد جمع الحافظ ابن حجر موقوفات مسلم فى جزء صغير سماه: «الوقوف على ما فى صحيح مسلم من الموقوف».
صحيح البخاري
منهجه فى العناية بالألفاظ
كان الإمام مسلم يتحرّى الدقة الشديدة فى مروياته، فكان يذكرها كما رواها وسمعها، ولم يكن يقطِّع الأحاديث، ولم يكن يتصرَّف فى الألفاظ، إضافة إلى ذلك فإنه كان يفتِّش عن أسماء من لم يسمُّوا فى الأحاديث، ويهتمُّ بإيراد أسمائهم.
مثال ذلك ما أورده فى صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِى امْرَأَةٌ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ». فَقُلْتُ امْرَأَةٌ لاَ تَنَامُ تُصَلِّي. قَالَ: «عَلَيْكُمْ مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا» وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَفِى حَدِيثِ أَبِى أُسَامَةَ: أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ بَنى أَسَدٍ، ثم ذكر فى رواية بعدها أنها: الْحَوْلاَءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى».
وهذا يدل على عنايته الشديدة بمثل هذه الأمور، بينما لم يكن الإمام البخارى يولِى عناية كبيرة بمثل ذلك.
ونقلا عن كتاب «صحيح البخارى نهاية أسطورة» للباحث المغربى رشيد أيلال والذى كتب تحت عنوان «انتقاد مسلم لبعض ما أخرج البخارى» يقول: فمن ذلك حديث الإسراء الذى رواه شريك بن عبد الله فقد أعله مسلم بقوله «وقدم فيه شيئا وأخر وزاد ونقص».
ومنها عدم احتجاجه برواة احتج بهم البخارى كعكرمة مولى ابن العباس وآخرين، ومنها انتقاده لشرط «البخارى» فى السماع بين المتعاصرين، وفى ذلك يقول أبو الوليد الباجى (توفى 474 هـ) فى كتابه «التعديل والتجريح» الجزء الأول (وقد أخرج البخارى أحاديث أعتقد صحتها، تركها مسلم لما اعتقد فيها غير ذلك، وأخرج مسلم أحاديث اعتقد صحتها، تركها البخارى لما اعتقد فيها غير معتقده».
انتقاد الترمذى ت 279 هـ لحديث فى صحيح البخارى
المعروف أن الإمام الترمذى هو صاحب «سنن الترمذى» أحد كتب الحديث الستة المشهورين.
وهو هنا ينتقد حديثًا أخرجه البخارى وهو حديث ابن مسعود فى الاستنجاء بالحجارة يقول فيه حدثنا أبو نعيم، قال حدثنا زهير عن أبى إسحاق قال، ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول «ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمرنى أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال هذا ركس».
أعله الترمذى بالاضطراب فقال فى سننه تحت عنوان «كتاب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء فى الاستنجاء بالحجرين»:
قال أبو عيسى، وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث عن أبى إسحق عن أبى عبيدة عن عبد الله، نحو حديث إسرائيل، وروى معمر وعمار بن رزيق عن أبى إسحق عن علقمة عن عبد الله، وروى زهير عن أبى إسحق عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه الأسود بن يزيد عن عبد الله، وروى زكريا بن أبى زائدة عن أبى إسحق عن عبد الرحمن بن يزيد عن الأسود بن يزيد عن عبد الله وهذا حديث فيه اضطراب.
أبو الفضل ابن عمار الشهيد «ت 317 هـ»
هو الحافظ أبو الفضل بن عمار الشهيد، قال عنه الإمام الذهبى فى «سير أعلام النبلاء» الإمام الحافظ الناقد المجود أبو الفضل محمد بن أبى الحسين أحمد بن محمد بن عمار الجارودى الهروى الشهيد.
وابن عمار هذا صاحب فضل حقيقى على التراث الإسلامى، وذلك لأنه يعد أقدم من ألف كتابًا مختصًا فى نقد الصحيح، فقد جمع الأحاديث التى انتقدها على الإمام مسلم فى جزء (علل أحاديث فى كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج)، وقد أعلَّ ابن عمار فى كتابه هذا ستةً وثلاثين حديثاً أخرجها مسلم فى صحيحه.
ورغم أن عمله كان مركزًا على صحيح الإمام مسلم لكنه أرسى لمن جاء بعده كما سنرى القدرة على الانتقاد لما يسمى الكتب الصحيحة.
أبو جعفر العقيلى (ت322 هـ)
قال عنه العلماء كان العقيلى جليل القدر عظيم الخطر وكان كثير التصانيف، ومن تصانيفه «الضعفاء الكبير».
وفى كتابه ضعّف العقيلى عدداً من أحاديث صحيح البخارى، وعلى سبيل المثال حديث همام بن يحيى فى الأبرص، وفيه:
«عن همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة، حدثنى عبد الرحمن بن أبى عمرة أن أبا هريرة حدثه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن ثلاثة فى بنى إسرائيل: أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا الله أن يبتليهم، فبعث الله إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال له: أى شىء أحب إليك؟
فقال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرنى الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطى لونا حسنا وجلدا حسنا.
فقال: أى المال أحب إليك؟
قال: الإبل، أو: قال البقر - هو شك فى ذلك أن الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل، وقال الآخر: البقر - فأعطى ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها.
قال: وأتى الأقرع فقال له: أى شيء أحب إليك؟
قال: شعر حسن، ويذهب عنى هذا، قد قذرنى الناس، فمسحه فذهب، وأعطى شعرا حسنا.
قال: فأى المال أحب إليك؟
قال: البقر، فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها.
قال: وأتى الأعمى فقال: أى شيء أحب إليك؟
قال: يرد الله إلى بصرى فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره.
قال: فأى المال أحب إليك؟
قال: الغنم فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص فى صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بى الحبال فى سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال بعيرا أتبلغ عليه فى سفرى.
فقال له: إن الحقوق كثيرة.
فقال له: كأنى أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله عز وجل.
فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع فى صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى فى صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بى الحبال فى سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذى ردَّ عليك بصرك، شاة أتبلغ بها فى سفري.
فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلى بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل.
فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك».
هذا الحديث رواه أبو جعفر العقيلى فى الجزء الرابع من «الضعفاء الكبير» ثم ضعّفه واعتبره من كلام عبيد بن عمير، وسبب تضعيف العقيلى للحديث هو أن «همام بن يحيى» هذا ضعيف الحفظ وليس الحديث عند أحمد بن حنبل، مما يدل على تضعيفه له، بل ليس عند أصحاب السنن، والحديث رواه البخارى ومسلم من طريق «همام» عن إسحاق، عن ابن أبى عمرة، عن أبى هريرة مرفوعاً.
الضعفاء الكبير
أبو بكر الجصاص ت (370هـ)
والإمام أبو بكر الجصاص صاحب «أحكام القرآن» له شأن فى زمانه وبين أقرانه، وقد أفردتْ له كتب التراجم مساحة وافية للتّعريف به، وبشيوخه وتلاميذه وبنتاجه العلمى.
وردًا على حديث «سحر الرسول» قال أبو بكر الجصاص الحنفى فى كتابه أحكام القرآن «وهذا الحديث من وضع الملحدين» قال وضعه ملاحدة كفار وزنادقة فى البخارى ومسلم، وللأسف جازت الحيلة على البخارى ومسلم فصدقا هذا الحديث وجعلاه فى صحيحهما.
أبو بكر الإسماعيلى (ت 371 هـ)
هو أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الجرجانى الإسماعيلى الشافعى (277 هـ - 371 هـ) أحد كبار شيوخ الشافعية فى عصره، له مستخرج عن الصحيحين يطلق عليه «صحيح الإسماعيلى» انتقد فيه بعض أحاديث البخارى:
أخرج البخارى فى «صحيحه» حديث أبى هريرة يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، يقول «وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصنى؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتنى أن لا تخزينى يوم يبعثون، فأى خزى أخزى من أبى الأبعد، فيقول الله تعالى: إنى حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار».
وقد طعن فيه «الإسماعيلى» قال ابن حجر فى «فتح الباري» الجزء الثامن «وقد استشكل الإسماعيلى هذا الحديث من أصله، وطعن فى صحته، فقال بعد أن أخرجه «هذا خبر فى صحته نظر، من جهة أن إبراهيم علم أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزيا، مع علمه بذلك».
وفى موضع آخر روى البخارى ومسلم عن قتادة بن دعامة رحمه الله أنه قال: سألت أنس بن مالك رضى الله عنه مَن جمع القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أبى بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. قلت: مَن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتى.
ورواه البخارى بلفظ مختلف من طريق عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك عن ثابت البُنانى وثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أنه قال: مات النبى صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
قوله فى الرواية الثانية «أبو الدرداء» بدلا من أُبى بن كعب يبدو أنه من أوهام عبد الله بن المثنى، وهذا وثقه جماعة وضعفه جماعة، وقال فيه ابن حجر: صدوق كثير الغلط.
قال ابن حجر فى فتح البارى، قال: الإسماعيلى: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان فى الصحيح مع تباينهما، بل الصحيح أحدهما.
الخلاصة:
أنه حتى أهل التخصص والمهتمين بجمع الحديث أمثال الإمام مسلم والإمام الترمذى وهما قد عرفا المشقة التى مر بها البخارى لأنهما مثله كانا مهتمين بجمع الحديث وتعبا فى ذلك كثيرا ولهما تراثهما المشهود له، لم يمنعهم ذلك من الاتفاق مع البخارى والاختلاف أيضا وذلك ما يقتضيه العلم دائمًا.
ومن أشهر الذين انتقدوا أحاديث الإمام البخارى المحدث الشهير الدارقطني.. وهذا ما سنعرفه فى الحلقة المقبلة.