اصطحبني صديقي المرحوم عزازي علي عزازي إلي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في شقته بالمهندسين عام 1986..كانت شهور قليلة مرت علي حصول عزازي علي درجة الماجستير من آداب الزقازيق (عام 1985) وكان موضوعها "شعر بني عبس في الجاهلية" ..أخبرني عزازي أن موضوع الرسالة الذي يتعرض لشعر الصعاليك كان جسر التعارف بينهما.
كان غرض الزيارة هو طلب عزازي نصيحته في عرض من شخصية إماراتية كانت تخطط لإصدار مجلة ثقافية اسمها "أوراق"، وزار القاهرة للاتفاق مع كُتاب لها، وفي لقاء علي مقهي في وسط البلد تعرف عليه عزازي وعرض عليه أن يكون "صاعد" هو مكتب المجلة، فوافق وطلب تجهيز موضوعات له.. كان الأبنودي يعرف الرجل، ووعد خيرا لكن مشروع الإصدار تعطل من الأصل.
كنت أنا في بداية مشواري الصحفي في "صاعد"، وكان شعر الأبنودي بالنسبة لي حالة سياسية وفنية، أذكر في انتخابات مجلس الشعب عام 1984 وكانت بالقائمة النسبية المشروطة، وكان حزب التجمع يخوضها بقائمة في دائرتنا جنوب القليوبية بقائمة يقودها زعيم الحزب التاريخي خالد محيي الدين، وفي مؤتمر حضره آلاف في مدينة بنها كان هو نجم اللقاء وقدمه صلاح عيسي وسط تصفيق حار، واستهل شعره بجملة :"لم أحضر للدعوة لهؤلاء وإنما جئت لأتشرف بالوقف إلي جانبهم".
كان ديكور شقته قطعة من شعره..النورج الفلاحي في مكان، ومشنة العيش معلقة علي الحائط ، وجلسنا علي دكة مفروشة بكليم يدوي.. وكان طبق نحاس معبأبقليل من الرمل مطفأة السجائر، شاركناه في التدخين وكان وقتها شرها فيه..قدمني "عزازي" إليه :"سعيد الشحات " فسألني ضاحكا:" إزاي..سعيد وشحات ؟"..نفس السؤال سمعته بعد هذا اليوم بسنوات من كاتبنا الكبير كامل زهيري نقيب الصحفيين..قلت للأبنودي :"أبي كان وحيدا فسموه "الشحات" تقربا إلي الله باعتقاد أن ذلك سيحميه ويعيش..وأنا ولدت بعد أربع بنات، وقبل العيد بأيام وحدث خلاف حول اقتراح بتسميتي "عيد " حتي حسمته جدتي لأبي بصرامة شخصيتها :"سعيد" عشان يبقي وشد السعد علي أبوه "..ضحك متسائلا :"اوعاك تكون خيبت نظرة جدتك؟."
تحدثنا حول الشعر والسياسة والذكريات وأخذ شعره الغنائي مجالا أكبر في الكلام.. قال له عزازي :"مش عارف دي المرة الكم اللي أعبر لك عن عشقي لأغنية فايزة أحمد "يما يا هوايا يما / الهوي بعتر ضفايري إيه قصده معايا"..وأغنية "أحضان الحبايب" بتاع عبدالحليم ، دي بنت ستين في سبعين ، هكذا نطق عزازي "بنت ستين في سبعين" تعبيرا عن إعجابه الشديد ..أما أنا فقلت له:"أنا ممكن أسمع من غير أي ملل مرة واتنين وتلاتة وأربعة وخمسة وأكتر أغنية نجاة:"مسير الشمس من تاني /تنور فوق سنين عمري/ وتصبح غنوتي تاني /وترجع فرحتي في صدري /وهايجيني الربيع الأخضر /شباب نشوان بيتمخطر /مسير الشمس ياغالي"
ذكرنا أغاني أخري، توقفنا عند أغنية "عدي النهار" التي غناها عبدالحليم حافظ بعد نكسة 5 يونيو 1967، قال:"دي أغنية عبد الناصر المفضلة بعد النكسة لدرجة إنها لما كانت بتغيب عن الإذاعة كان بيسأل عنها"..سأله عزازي عن أغاني كتبها شعراء آخرون لكن مفرداتها تبدو من قاموسه هو، فأخذ نفسا عميقا من سيجارته وكشف عن أغاني كتب مطلعها وأكملها آخرون :"كنت أبدا الأغنية وتحصل حاجة تسد نفسي، أسيبها، يفضلوا منتظرين، وأنا مش قادر، يسألوني إيه العمل، أقول لهم: اتصرفوا هات حد يكملها، أحيانا كنت اقترح حد ، وأحيانا يتصرفوا "، وقال عن أغنية "أحضان الحبايب" أنه كتبها بعد أن استفزني عبد الحليم :"قال لي انت لك في الغناء الشعبي والعاطفي بتاع وهيبة وعدوية، لكن الغناء العاطفي الكلاسيكي دي حاجة تانية، قلت له طيب، وفي نصف ساعة كتبت "مشيت علي الأشواك وجيت لأحبابك /لاعرفوا إيه وداك ولاعرفوا إيه جابك"
بقيت هذه الجلسة في ذاكرتي لا أنساها أبدا، ودونت بعض ماجري فيها في أجندتي، وظلت بالنسبة لي حجرا أريد بناء عالم أكبر للأبنودي عليه، ولتنفيذ هذا الهدف أعددت نفسي أكثر من مرة للحوار معه، لكن كان يحدث شيئا يعطل، أتصل به فيطلب التأجيل، وأدخل أنا في مشروع صحفي آخر، وحين سجلت مذكرات الفنان محمد رشدي في بدايات عام 1990، اتصلت به لنفس الغرض، فقال :"لما تنشر اللي أخذته من رشدي الأول"، ولأني تكاسلت في مشروع رشدي تكاسلت بالتبعية في متابعته، حتي كان لقائي به في حضرة سيد الراوية العربية نجيب محفوظ في شهر أبريل عام 2000 في اللقاء الأسبوعي لمحفوظ كل يوم ثلاثاء بمركب "فرح بوت"، وكان هو من حضوره وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وفريدة الشوباشي وعلي الشوباشي والروائي نعيم صبري وآخرين.. كانت هذه المرة هي الثانية لي في حضور هذا اللقاء، وبالتنسيق مع الغطياني لإجراء حوار مع "أديب نوبل".
قبل حضور "محفوظ" جلست معه، أبديت له ملحوظة :"بقي لك كرش يا خال" فرد :"ده مش كرش عز ده كرش مرض"، وتحدث عن حالته الصحية.. سألني عن عزازي، فطمأنته، وحين حضر نجيب محفوظ قمنا جميعا في استقباله.. طبع هو قبلة علي رأسه، ولما مددت يدي للسلام عليه، قال له:" يا أستاذ ده الواد سعيد الشحات اللي شبكك مع خالد عبد الناصر، فرد محفوظ:" اللي شبكنا وخلصنا".. جلسنا وسأله الأستاذ نجيب :"طمني علي صحتك يا عبد الرحمن".. رد :"الحال أفضل ،الدكتور شدد علي إني أتمشي كل يوم ساعة، والنهاردة أنا جيت علي هنا ماشي من العتبة".. علق محفوظ :"ما شاء الله.. عظيم".
مرت الأيام، وبعد أن اتفقنا علي لقاء، ألغاه غاضبا بسبب معركة تفجرت بينه وبين جريدتي العربي، بعد حوار أجراه رئيس القسم الثقافي بالجريدة الصديق الراحل فتحي عامر مع الشاعر فؤاد قاعود عام 2001، وقال فيه :"شعر عبد الرحمن الأبنودي سطحي وليس هناك أي كثافة في شعره".. غضب وهاجم الحزب الناصري، واحتدمت المعركة واستمرت أياما حتي تدخل لتهدئتها كتاب كبار أذكر منهم العظيمين محمد عودة ويوسف الشريف.
استمر الأمر علي هذا النحو حتي عام 2006، وكنت انتقلت وقتها للعمل في جريدة "المصري اليوم"، وكانت مصر تعيش استقطابا حادا بين المعارضة ونظام مبارك، وكانت الحركات الاحتجاجية بقيادة "كفاية" صاحبة الصوت الأعلي، في نفس الوقت الذي فازت فيه جماعة الإخوان بما يقرب من مائة مقعد في آخر انتخابات برلمانية "عام 2005".
في هذا السياق اقترحت علي رئيس التحرير مجدي الجلاد عمل سلسلة حوارات أسبوعية بعنوان "الأزمة والمستقبل"، تقوم علي تشخيص الأزمة التي تعيشها مصر، وسيناريوهات المستقبل، وخططت أن تكون الحوارات مع شخصيات تعبر عن تيارات سياسية وفكرية مختلفة لديها قدرة علي التنبؤ وفقا لقناعتها السياسية والفكرية، وحددت الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، والدكتور محمد السيد سعيد نائب رئيس المركز، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور جلال أمين، والكاتب الصحفي صلاح عيسي.
بدأت النشر بمقدمة عن الفكرة، ودعوة للتعقيبات، ودفعت بثلاثة حوارات مع العوا، وصلاح عيسي، وعبدالمنعم سعيد، وفجأة أبلغني رئيس التحرير :"عبد الرحمن الأبنودي عاوز يتكلم معك، اتصل به"..اتصلت، قال لي :"أخيرا حتعمل الحوار، رغم إن عيني تعبانة"..واتفقنا علي اللقاء بعد يومين.
ذهبت إليه وبصحبتي زميلي المصور..كان يرتدي نظارة سمراء بأمر الطبيب..التفت إلي المصور :"مفيش شغل لك النهاردة "..سألني عن مذكرات الفنان محمد رشدي.. أبلغته :"لا جديد" وتحججت بدور النشر.. رد:" لو جاهزة، بلغني ومتحملش هم الناشر".. وبدأنا الحوار، ومع سخونته استجاب لطلب المصور بالتقاط صور له كدليل علي تنفيذ مهمته، لكنه اشترط أن لا يتم نشرها، وطلب العودة إليه بعد أيام للتصوير.
تعجب في الحوار من مصر التي يراها وقتئذ، عبر عن غضبه من الحكومة والنخبة والأحزاب والجماهير.. تحدث عن عبد الناصر والسادات، والفلاح المصري وتعامله مع أفندياته، وتحدث عن فترة سجنه عام 1966، وحذر من جماعة الإخوان ..قال :"الحكومة تركتهم فاخترقوا المسافة والسواتر، وقدموا للفقراء ما يسمي بأعمال الخير، التي أصبحت فيما بعد عملاً سياسياً "..حذر من تهاون نظرة الحكومة وبعض المثقفين لخطر الجماعة.. قال :"إذا كانت الدولة والمثقفين يعتقدون أن أمرها هين، فإنهم يكونون مخطئين إذ لم يعد أمام الفقراء غير الرب ، والرب هو ما يتحرك باسمه الإخوان".
سلمت الحوار علي وعد بأن يذهب إليه المصور لتصويره من جديد، لكن المصور لم يذهب ودفع بصورته مرتديا النظارة السوداء، فاتصل بي غاضبا :"ايه اللي انت عملته ده..هو الحوار كان معايا ولا مع سيد مكاوي"؟.. لم أتمالك نفسي من الضحك رغم غضبه.. رد : وبتضحك كمان يا ابن .." شعرت بابتسامته مع شتيمته فقدمت له تبريرات واعتذارات..رد :"حصدقك عشان الحوار حلو.. خلص بقي مذكرات محمد رشدي".
بعد المكالمة ألقيت نظرة جديدة علي الحوار فاكتشفت أنه صورته بالنظارة السوداء تجعله قريب الشبه بالشيخ سيد مكاوي.