اتصلت بالمفكر الكبير والمناضل الفلسطيني البارز الدكتور أحمد صدقي الدجاني "أبو الطيب" يوم 22 يناير عام 1988، وكان اليوم التالي لنشر حواري معه في جريدة صوت العرب لصاحبها ورئيس تحريرها الكاتب والأستاذ الفاضل عبد العظيم مناف.. كان "الدجاني" رحمه الله لايتحدث إلا بالفصحي حتي لو طلب كوب مياه للشرب، مما كان يعطيه تفردا اضافيا كإنسان، ومفكر عربي مرموق، ومناضل من القادة التاريخيين لمنظمة التحرير الفلسطينية.
رد الدجاني بصوت حماسي :"أهلا بك أخي سعيد، أشكرك علي الحوار الذي أحدث ردود فعل طيبة ومقدرة بين صفوف شعبنا الفلسطيني قيادة وشعبا.. أخي أبو عمار طلب نصه أمس عبر جهاز الفاكس، ثم تحدث معي بشأن ماجاء فيه، واتفق معي علي أشياء واختلف في أشياء أخري ..أشكرك ..أشكرك".
كنا في هذا الوقت نعيش أجواء الانتفاضة الفلسطينية الأولي التي اندلعت يوم 8 ديسمبر 1987 ، وكانت الحجارة سلاحها ولهذا عرفت ب"انتفاضة الحجارة"، وكانت جريدة "صوت العرب" أسبوعية مستقلة تصدر صباح كل اثنين بتوجهها القومي تفتح صفحاتها لهذا الحدث التاريخي، وأخذت تكليفا بعمل حوار مع الدكتور الدجاني حولها بما يمثله من وزن سياسي وفكري كبير ،فهو ممن أسهموا في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وأصبح عضوا في اللجنة التنفيذية عام1977 وظل بها حتي ترك منصبه عام 1984 لاختلافه مع قيادة المنظمة حول الخط السياسي.
كنت أعرف الدجاني من الندوات التي يشارك فيها، ومن المقالات المتناثرة لها، لكنني لم أكن أعرف بما فيه الكفاية دوره كقيادي مؤسس وبارز في منظمة التحرير الفلسطينية، ولم أكن أعرف أنه يستخدم اللغة العربية الفصحي في حديثه اليومي مع الجميع، كنت أظن أنه يستحدث بها في المنتديات والمؤتمرات فقط، ولما قرأت عنه، واتصلت به، وحدثني بلغته الفصحي في التليفون، فوجئت بلساني الذي أصبح فصيحا تحت تأثيره، واتفقنا علي الموعد في شقته بشارع السباق بالعمارة المطلة علي حديقة الميريلاند في مصر الجديدة.
في شقته بالدور العاشر لفت نظري وجود آلة العود الموسيقية معلقة علي الحائط، ومع بداية الحوار حضر الدكتور محمد خالد الأزعر المستشار الثقافي فيما بعد بالسفارة الفلسطينية بالقاهرة، وكان يعد وقتها رسالة الماجستير، والمناضل الفلسطيني حمد الحجاوي.
تحدث الدجاني في الحوار عن الانتفاضة ووقودها من "جيل النماء والحداثة"، وتوقعاته لاستمرارها، وموقع منظمة التحرير فيها، والواجبات الملقاة عليها نحو الشعب الفلسطيني لاستمرار جذوتها، وقال :"شعار الانتفاضة هو شعار التحرير، وأي حديث آخر حاول عدونا عبثا هو والولايات المتحدة الأمريكية أن يعودونا عليه هو سير وراء السراب، والمطلوب ببساطة إعطاء شعار التحرير حقه وضرورة توطين أنفسنا متابعة خوض معركتنا الأخيرة "..وقال :"مسار منظمة التحرير والثورة الفلسطينية في المرحلة القادمة أراها مرحلة مواجهة والنضال السيسي لابد أن يخدم ذلك، وأن لا يقع أبدا في السير وراء سراب ما يسمي بتسويات سلمية لأنه من الواضح تماما أن عقد التسوية قد انتهي".
وتوقع :"العدو سيلجأ إلي التطرف أكثر، أما الولايات المتحدة فستلجأ إلي التمييع، ولابد لنا أن نتابع بعض الوقت لنضغط عليها لتغيير موقفها الذي يبدأ بكلمة واحدة لو سمعناها، فإن جديدا سوف يحدث، وهذه الكلمة هي الانسحاب الإسرائيلي الفوري، وأي حديث آخر هو ضياع ودخول في متاهات لاتنتهي"..وقال أنه كواحد من قيادات منظمة التحرير يقبل النقد لبعض مسارها الذي حدث، لكن في نفس الوقت فإن هذا النقد ينصرف علي مرحلة عربية بعينها"
أثارت النقاط السابقة في الحوار جدلا بين "الدجاني" وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير، كما أخبرني هو بعد ذلك في إحدي لقاءاتي به، بعد أن توطدت علاقتي به، ولاأنسي واحدة منها ولم تكن لغرض صحفي، وإنما للحصول علي توقيعه علي بيان تضامن مع المتهمين في قضية "تنظيم ثورة مصر المسلح" بقيادة محمود نور الدين والدكتور خالد جمال عبدالناصر، والذي قام بأربع عمليات مسلحة، منها ثلاثة ضد عناصر إسرائيلية عاملة في السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، ورابعة ضد عنصر من السفارة الأمريكية.
كانت لجنة تكونت للدفاع السياسي عن المتهمين، وعقدت اجتماعا في حزب التجمع، أذكر أن المخرج الكبير صلاح أبوسيف كان من قياداتها، وكان ضمن الجالسين علي المنصة، وكنت أنا ضمن المتطوعين مع شباب آخرين للحصول علي توقيع رموز سياسية وفنية وفكرية علي البيان الذي صاغته هذه اللجنة، وسافرت أنا وصديقي الصحفي الراحل مجدي حسانين إلي الاسكندرية للحصول علي توقيع أسامة أنور عكاشة، حيث كان يقيم هناك صيفا، كما ذهبنا إلي الشاعر أحمد فؤاد نجم في حجرته بحوش قدم، وعزمنا علي شربة عدس ترضية لنا لأنه لن يريد قراء ة البيان علي مهل، وطالبنا بالمرور عليه في اليوم التالي، وأعطانا التوقيع
كان الحصول علي توقيع الدجاني من اقتراحي، ولما حدثته تليفونيا طلب مني زيارته، وقبل الموعد بدقائق كنت أمام العمارة لأجده وغيره من سكانها ينتظرون عودة الكهرباء المقطوعة التي عطلت الأسانسير، رحب بي، وعرض أن نتمشي حول حديقة "الميريلاند" حتي تعود الكهرباء، وبدأنا.
سألني بلغته الفصحي عن أحوالي وقراءاتي الحالية، وسألني عن الشخصيات التي وقعت علي البيان، فسردت له بعض الأسماء التي وقعت، وأخري كانت قيد الانتظار، وضحك كثيرا حين رويت له قصة عدس عمنا أحمد فؤاد نجم.. سألني:"هل تجدون صعوبة مع أحد؟..أجبته: هناك من رفض..علق: الخطر أن تدخل هذه القضية مجال المزيدات السياسية..سألته عن الموقف العربي نحوها.. أجاب :"التقدير الشعبي عظيم في كل البلاد العربية، وهناك فعاليات تأييد في تونس، لبنان، اليمن، لكن المواقف الرسمية تعمل حسابها للموقف الرسمي في مصر، وهذا أمر متوقع، أرجو أن لا يشكل إزعاجا".
كان "الدجاني" يتحدث مطمئنا أن ما يذكره ليس مجاله النشر، وفي طريقنا للعودة إلي العمارة نظر إلي الأرض فلمحت عينيه نحو حذائي المتهالك، فقررت أن تكون أول مهمة أفعلها بعد انتهاء لقاءنا هو شراء حذاء جديد.
فوجئنا باستمرار تعطل الكهرباء، فعرض عليِ أن نصعد السلم لنصل إلي شقته في الدور العاشر، ووافقت، ومن الدور الرابع تقريبا حل الظلام التام علي السلم.. قال :"يمكننا أن نتحدث حتي لايغلبنا التعب، وحتي أكون دليلك، فأنا أجيد السير في الظلام، لدي حاسة استشعار بالخطر خلاله".. سألته :"كيف تعودت علي ذلك؟.. أجاب :"هناك دراسات في علم النفس تقول أن الجنين تتكون لديه هذه الحاسة وعمره ستة شهور أي وهو في بطن أمه، وبالنسبة لي تعودت مواجهة الخطر في الظلام منذ أن كنت في يافا.. هل تعلم أخي سعيد أن العدو أجبر أسرتي علي الهجرة عام 1948 ..كان عندي 12 عاما ..ذهبنا إلي اللاذقية، وأنا في يافا صبيا كان إجرام العدو يتواصل ليل نهار، كنا نختبئ ونقاوم، والاختباء والمقاومة في الليل والظلام دامس يتطلبان أن لا يشعر بك أحد"..عرفت منه في هذا اليوم رحلة منفاه من يافا إلي اللاذقية ثم إلي ليبيا وحضوره إلي مصر للاستقرار فيها عام 1969 .
كان "الدجاني" يتحدث بصوت مبحوح يغلب الحزن عليه مما أوحي لي أن سنوات صباه في يافا ماثلة أمامه ونحن نتنقل علي درجات السلم..وصلنا إلي باب الشقة، ودخلنا ونادي علي زوجته :"يا أم البنين أتعبنا صعود السلم، وضيفنا وابننا الكريم ينتظر مكافأتك من الكرم".
قدمت إليه بيان التضامن مع ثورة مصر، وأبلغني أنه سيقرأه وطلب مني أن أتواصل معه تليفونيا، وبعد شهور اتصل بي ليهديني كتابه "الانتفاضة الفلسطينية والصحوة العربية " وفيه حواري معه الذي أثار جدلا بينه وبين ياسر عرفات، رحمة الله عليهما .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة