ما حدث بين سيدنا موسى وفرعون وما يسمى بـ"الخروج" واحدة من القضايا التى خاض فيها التراث، ولا نزال نحن بعد كل هذه السنوات ننشغل بها، فما الذى يقوله التراث الإسلامى فى ذلك:
يقول كتاب "البداية والنهاية":
قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون فى الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج، وتأهبوا له، وإنما كان فى نفس الأمر، مكيدة بفرعون وجنوده، ليتخلصوا منهم، ويخرجوا عنهم، وأمرهم الله تعالى فيما ذكره أهل الكتاب، أن يستعيروا حليًا منهم، فأعاروهم شيئًا كثيرًا.
فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم، طالبين بلاد الشام، فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق، واشتد غضبه عليهم، وشرع فى استحثاث جيشه وجمع جنوده، ليلحقهم ويمحقهم، قال الله تعالى:
"وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِى رَبِّى سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" [الشعراء: 52- 68] .
قال علماء التفسير: لما ركب فرعون فى جنوده طالبًا بنى إسرائيل يقفو أثرهم، كان فى جيش كثيف عرمرم، حتى قيل كان فى خيوله مائة ألف فحل أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف، فالله أعلم.
وقيل: إن بنى إسرائيل كانوا نحوًا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية، وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام، ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستًا وعشرين سنة شمسية.
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس، وتراءى الجمعان، ولم يبق ثَم ريب ولا لبس، وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه، ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة، فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون: إنا لمدركون، وذلك لأنهم اضطروا فى طريقهم إلى البحر، فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه.
وهذا ما لا يستطيعه أحد، ولا يقدر عليه، والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم، وهى شاهقة منيفة، وفرعون قد غالقهم وواجههم، وعاينوه فى جنوده وجيوشه وعدده، وهم منه فى غاية الخوف والذعر لما قاسوا فى سلطانه من الإهانة والمنكر.
فشكوا إلى نبى الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه، فقال لهم الرسول الصادق المصدوق: "كَلَّا إِنَّ مَعِى رَبِّى سَيَهْدِينِ" وكان فى الساقة، فتقدم إلى المقدمة، ونظر إلى البحر، وهو يتلاطم بأمواجه، ويتزايد زبد أجاجه، وهو يقول: ههنا أمرت، ومعه أخوه هارون، ويوشع بن نون، وهو يومئذ من سادات بنى إسرائيل، وعلمائهم، وعبَّادهم الكبار. وقد أوحى الله إليه، وجعله نبيًا بعد موسى وهرون عليهما السلام، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله.
ومعهم أيضًا: مؤمن آل فرعون، وهم وقوف وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف، ويقال: إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارًا فى البحر، هل يمكن سلوكه فلا يمكن، ويقول لموسى عليه السلام: يا نبى الله أههنا أمرت؟ فيقول: نعم.
فلما تفاقم الأمر، وضاق الحال، واشتد الأمر، واقترب فرعون وجنوده فى جدهم: وحدهم وحديدهم، وغضبهم وحنقهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير، رب العرش الكريم، إلى موسى الكليم: "أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ" فلما ضربه:
يقال: إنه قال له: انفلق بإذن الله، ويقال: إنه كناه بأبى خلد، فالله أعلم. قال الله تعالى: "فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ" [الشعراء: 63] .
ويقال: إنه انفلق اثنتى عشرة طريقًا، لكل سبط طريق يسيرون فيه، حتى قيل: إنه صار أيضًا شبابيك ليرى بعضهم بعضًا، وفى هذا نظر، لأن الماء جرم شفاف إذا كان من وارئه ضياء حكاه. وهكذا كان ماء البحر قائمًا مثل الجبال، مكفوفًا بالقدرة العظيمة، الصادرة من الذى يقول للشيء: كن فيكون.
وأمر الله ريح الدبور، فلقحت حال البحر، فأذهبته حتى صار يابسًا لا يعلق فى سنابك الخيول والدواب. قال الله تعالى: "وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى" [طه: 77-79] .
والمقصود أنه لما آل أمر البحر إلى هذه الحال، بإذن الرب العظيم، الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببنى إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدى قلوب المؤمنين.
فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه، ووفودهم عليه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه، ليرجع كما كان عليه، لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه، ولا سبيل عليه، فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو الصادق فى المقال:
"وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَى عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّى آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ * وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ } [الدخان: 17-33] .
فقوله تعالى: { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا } أي: ساكنًا على هيئته، لا تغيره عن هذه الصفة. قاله عبد الله بن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والربيع، والضحاك، وقتادة، وكعب الأحبار، وسماك بن حرب، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم.