حالة من الجدل أثارها إعلان وزير الخارجية الأمريكى الأسبق كولن بأول عن دعمه للديمقراطى جو بايدن، فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، على حساب الرئيس دونالد ترامب، رغم انتمائه للحزب الجمهورى، الذى يمثله سيد البيت الأبيض، وذلك بالتزامن مع المظاهرات التى شهدتها مختلف الولايات فى الآونة الأخيرة، بسبب مقتل جورج فلويد، ذى الأصول الإفريقية، على يد أحد رجال الشرطة فى ولاية مينينسوتا، وهو ما يعكس حالة من الانقسام داخل أروقة الحزب الحاكم فى الولايات المتحدة، ربما لا تقتصر فى نطاقها على الوضع الراهن فى الشارع، وإنما تعود إلى عدة سنوات إلى الوراء، وتحديدا منذ بزوغ نجم ترامب على الساحة السياسية، عندما خاض الانتخابات الرئاسية الأخيرة فى عام 2016.
كولن بأول، ربما وجد فى مقتل فلويد فرصة للإعلان عن موقفه، خاصة وأن الرجل ينتمى إلى الأقلية السمراء فى المجتمع الأمريكي، وبالتالى تبقى حالة الغضب الراهن، والتى امتدت من الشارع الأمريكي، إلى العديد من العواصم العالمية الأخرى، سواء فى دول أوروبا الغربية مرورا بدول آسيا، وحتى شوارع الدول الإفريقية، جزءً لا يتجزأ من أولوياته، إلا أن رؤية باول المناهضة لترامب، لا تتوقف على الموقف الحالي، وإنما تحمل العديد من الأبعاد الأخرى، أهمها مواقف ترامب تجاه العديد من القضايا الدولية، والتى تبقى محلا للجدل داخل أروقة الحزب الجمهورى، فى ظل سياسة الإدارة الحالية، والتى تقوم على استبعاد الصقور، وتهميشهم، وهو الأمر الذى نجح فيه الرئيس الأمريكى إلى حد كبير فى السنوات الماضية.
ليس الانشقاق الأول.. باول يدعم أوباما مرتين على حساب مرشحى حزبه
إلا أن المفارقة الجديرة بالملاحظة هى أن ترامب ليس أول جمهورى، يترشح للرئاسة فى الولايات المتحدة، لينشق عليه باول، والذى يعد أحد أبرز المسئولين، فى إدارات آل بوش، حيث كان الرجل أبرز القادة العسكريين فى حرب تحرير الكويت، عام 1991، فى إدارة جورج بوش الأب، بينما كان وزيرا للخارجية فى عهد الإبن، ليكون رأس الحربة فى الحرب على العراق، والتى بدأت فى عام 2003، بذريعة امتلاك العراق للسلاح النووي، وهى الحرب التى يعتبرها ترامب سقطة لا تغتفر لإدارة سلفه الجمهورى، بل وكانت منطلقا للسهام التى اطلقها الرئيس مؤخرا بحق الوزير الأسبق، عقب إعلانه تأييد خصمه الديمقراطى، حيث وصفه بالمتغطرس، الذى ورط واشنطن فى مستنقع العراق.
كولن باول دعم أوباما مرتين على حساب زملائه الجمهوريين
الوزير الأسبق سبق له وأن أعلن تأييده للرئيس السابق باراك أوباما، مرتين متتاليتين، أولهما فى عام 2008، على حساب الجمهورى جون ماكين، بينما كانت الثانية فى عام 2012، على حساب السياسى ميت رومنى، والذى ينتمى لحزبه، وهو الأمر الذى أثار العديد من الانتقادات فى حينه، خاصة وأن باول يعد ليس فقط من أبرز الوجوه المنتمية للحزب الجمهورى، وإنما من كبار القيادات داخله، وبالتالى فإن تأييده لأوباما كان كفيلا لإثارة الانقسام داخل أروقة المحافظين فى الولايات المتحدة.
مواقف باول المؤيدة لأوباما ارتبطت بأسباب عنصرية، وهو الأمر الذى تناوله أحد مساعدى ميت رومنى، خلال حملة الأخير الانتخابية، فى مواجهة الرئيس السابق فى عام 2012، حيث أكد حاكم ولاية هامبشاير الأسبق جون إدوارد سنونو، فى تصريحات تناولتها العديد من الصحف فى أكتوبر 2012، أى قبل الانتخابات الأمريكية بحوالى عشرة أيام، أن البشرة السمراء لأوباما هى السر وراء دعم باول له، على حساب مرجعيته الحزبية، موضحا أن الرجل ربما يشعر بالفخر أن يكون رئيس الولايات المتحدة منتميا لنفس عرقه.
وبالرغم من أن بايدن ليس من نفس العرق الذى ينتمى له الوزير الجمهورى الأسبق، إلا أن مواقفه ربما تروق له أكثر من تلك المواقف التى يتبناها الرئيس ترامب، ليس فقط بسبب كونه قد شغل نائب الرئيس فى عهد أوباما، وإنما أيضا بسبب موقفه الداعم للاحتجاجات التى أعقبت مقتل جورج فلويد، وتواصله مع ذويه، وهى الأمور التى تمثل دعما للأقلية "السمراء فى الداخل الأمريكى فى المرحلة الراهنة.
رحلة إنقاذ الصقور.. جبهة جديدة داخل الحزب الجمهورى لمجابهة الرئيس
ولكن بعيدا عن الأسباب العرقية، تبقى هناك أبعاد أخرى، وراء الموقف الذى تبناه كولن بأول، تجاه الرئيس ترامب، وعلى رأسها المواقف السياسية التى تتبناها إدارته، خاصة تجاه العديد من القضايا الدولية، فيما يتعلق بالتوجه نحو الانسحاب العسكرى، من العديد من مناطق العالم، وهو ما يمثل انقلابا صريحا على مواقف ما يسمى بـ"تيار الصقور" داخل الحزب الجمهورى، بالإضافة إلى تهميشه لعدد من القيادات التاريخية للحزب، على غرار ميت رومنى، وجون بولتون، والذى أقاله الرئيس قبل عدة أشهر من منصب مستشار الأمن القومى، بالإضافة إلى تهميش وزارة الخارجية، تحت قيادة أحد صقور الجمهوريين، وهو مايك بومبيو، ومن قبلهم موقفه الحاد تجاه جون ماكين، والذى يمثل أحد أبرز القيادات التاريخية فى الحزب الجمهورى، والذى لم يكتف ترامب بتشويهه حيا، وإنما واصل حملته ضده بعد مماته.
وهنا أصبح العداء نحو ترامب، بمثابة فرصة لتكوين جبهة جديدة داخل الحزب الجمهورى، ربما يشكلها الصقور، ويسعى لقيادتها كولن بأول الذى أعلن تأييده لبايدن، وميت رومنى، المرشح السابق للرئاسة الأمريكية، والذى أعلن عدم ترشيحه لترامب في الانتحابات المقبلة، بل وشارك في الاحتجاجات الأخيرة أمام البيت الأبيض، بالإضافة إلى الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، وهى الجبهة التي من شأنها إعادة إحياء دورهم في المرحلة المقبلة، بعد تهميشه من قبل الإدارة الحالية، ولو على حساب المرجعية الحزبية، خاصة وأن بقاء ترامب بالبيت الأبيض، ربما يكتب كلمة النهاية بالنسبة لدورهم السياسى.
إرث آل بوش.. سياسات ترامب تؤرق أسلافه الجمهوريين
ولعل المستقبل السياسى ليس فقط رهان خصوم ترامب من داخل حزبه، وإنما يبقى الحفاظ على الإرث، حيث يبقى تقويض الماضى، أحد أهم السياسات التي يتبناها الرئيس، وهو ما يبدو في شروعه في الانسحاب من العديد من الاتفاقات الدولية، والمنظمات، التي يراها كانت سببا في تراجع دور واشنطن، بالإضافة إلى سياساته القائمة على عدم الاعتماد على الوجود العسكرى الأمريكي للحفاظ على النفوذ، وهو ما يمثل تقويضا لرؤية آل بوش، والتي كان باول لاعبا أساسيا بها، وهو ما يبدو في الحروب التي خاضاها سويا بدءً من أفغانستان بذريعة الحرب على الإرهاب، ثم العراق، بسبب المزاعم التي دارت حول امتلاك النظام العراقى في ذلك الوقت لأسلحة دمار شامل.
بوش وزوجته لورا
وهنا يمكننا القول بأن الرؤى التي قدمها ترامب تمثل تقويضا، ليس فقط لإرث خصومه الديمقراطيين، وعلى رأسهم باراك أوباما، وإنما تمثل في السياق نفسه "كابوسا" في عقل أسلافه الجمهوريين، وعلى رأسهم عناصر إدارة بوش، والذين تبنوا الخيار العسكرى، كوسيلة للاحتفاظ بالنفود، وهو الأمر الذى تخلى عنه ترامب، في العديد من المناطق، سواء في الشرق الأوسط، أو آسيا، وحتى الدول الحليفة في أوروبا الغربية.