استعدت مصر لاستقبال جثمان الزعيم محمد فريد بعد أن أبرق لها الحاج خليل عفيفى من ألمانيا بوصوله يوم 8 يونيو 1920، حسبما يذكر عبد الرحمن الرافعى فى كتابه «محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية»..«راجع، ذات يوم 8 يونيو 2020».
يذكر «الرافعى» أن الإسكندرية قامت بتأليف لجنة برعاية الأمير عمر طوسون، ورئاسة أحمد يحى باشا للاحتفال بوصول الجثمان، وتبرع «طوسون» بنفقات الجنازة، وانتخبت هذه اللجنة لجنة تنفيذية تمثل صفوة أعيان الإسكندرية وشبابها، وفى الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين صباح 8 يونيو 1920 ظهرت الباخرة
«حلوان» التى تقل الجثمان، وفى الساعة الرابعة عصرا تحرك موكب الجنازة من مسجد «سيدى مجاهد»، وكان مشهدا عظيما لا يأتى البصر على آخره، واخترق شوارع الإسكندرية حتى وصل إلى محطة مصر، استعدادا لنقل الجثمان فى قطار الساعة الحادية عشر والنصف مساء ليصل إلى القاهرة صباح اليوم التالى.
يؤكد «الرافعى» أن الجماهير احتشدت فى دمنهور فى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ووقفوا فى خشوع أمام العربة التى بها الرفات، هاتفين بذكرى الفقيد، أما فى طنطا فغطت المحطة بنحو ألفين من الطلبة والموظفين والتجار والأعيان، حين وصلها القطار فى الساعة الثانية والنصف صباحا، وبعد أن تحرك القطار من المحطة، سار الجميع فى موكب كبير والموسيقى تعزف أمامهم بألحان الحداد، حتى بلغوا الجامع الأحمدى وصلوا فيه ركعتين على روح الفقيد، وفى بنها وصل القطار الساعة الرابعة صباحا، وكانت ردهة المحطة غاصة بجماهير المحتشدين، وألقى الأستاذ مرسى شاكر الطنطاوى أبيات شعر تحية قال فيها:«لتحى ذكراك يا فريد/ وليحى تاريخك المجيد/ من ذا يباريك فى المعانى/ وفى يد صنعها حميد / قد عشت حرا ومت حرا/ فأنت أنت الفتى السعيد/ جاهدت صرف الخطوب حتى /لان لآياتك الجمود/ فكن على مصر فى أمان/ إنا على العهد لا نحيد».
وصل القطار بالجثمان إلى محطة العاصمة فى الساعة الخامسة صباح الأربعاء 9 يونيو، مثل هذا اليوم، 1920، ووضع النعش فى مستودع الأمانات إلى أن يحين موعد تشييع الجنازة، ويقدم «الرافعى» وصفا تفصيليا لها، قائلا: «أصبحت العاصمة والحركة فيها غير عادية، فقد استعد الجميع لاستقبال رفات الزعيم، وتقاطرت الوفود من الأقاليم، وازدحمت الطرق بالناس، وأقفل أكثر الدواوين والمصالح أبوابها، وعطلت المدارس الأهلية والمعاهد الدينية، وكثير من المصانع، وفى منتصف الساعة الحادية عشرة قدم أعضاء اللجنة الإدارية للحزب الوطنى إلى المحطة، وأخذوا فى تنظيم سير الموكب، وما وافت الساعات الأولى بعد الظهر حتى أخذت الجماهير تتسابق إلى ميدان المحطة لتشترك فى الموكب، ووقفت كل طائفة فى المكان المعد لها، وكان الناس محتشدين على امتداد شارع كامل «شارع إبراهيم باشا» وميدان الأوبرا، وشارع محمد على «القلعة» وغيرها من الشوارع التى اجتازها الموكب، وفى القهوات العامة والمشارب القائمة فى تلك الشوارع، وشرف المنازل والأندية والفنادق».
يضيف الرافعى: «أقفلت الدكاكين على امتداد هذه الطرق، ورفعت على الكثير منها شارات الحداد والأعلام المصرية والأجنبية منكسة مجللة بالسواد، وكان رجال الشرطة منتشرين يحفظون النظام ويمنعون الزحام، وفى الساعة الثالثة إلا ربعا مرت كخطف البرق فرقة من راكبى الدراجات لإفساح الطريق تمهيدا لسير الموكب، وكانت تحمل أعلاما سوداء، وكانت فرقة من فرسان الكشافة تنظم صفوف الحاشدين على جانبى كل طريق».
يذكر الرافعى أن الموكب كان يتكون من الكشافة والنقابات والمحاكم والجمعيات والحزب الوطنى، ولجنة الوفد المركزية والمدارس على مختلف أنواعها من ثانوية إلى المدارس العليا كالطب والهندسة والحقوق والفنون الجميلة والمعلمين العليا والتجارة العليا، بالإضافة إلى الأمراء وكبار رجال الدولة.. يؤكد الرافعى: «كان جماهير المشيعين لا يحصى لهم عدد، وكانت سيارات المشيعات من العقائل والسيدات والآنسات تسير مثنى مثنى، وفى أولاها أسرة الفقيد، وفى الثانية لجنة تأبينية من السيدات».
يضيف الرافعى: استمر الموكب سائرا مارا بشارع كامل
«الجمهورية» فميدان الأوبرا، فشارع محمد على، وبعد الصلاة على الفقيد فى جامع قيسون، استأنف سيره إلى مدفن العائلة بجوار السيدة نفيسة، حيث أنزل جثمانه إلى مرقده الأخير، وتليت قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى:«كل حى على المنية غادى/ تتوالى الركاب والموت حادى/ ذهب الأولون قرنا فقرنا / لم يدم حاضرا ولم يبق بادى /هل ترى منهمو وتسمع عنهم /غير باقى مآثر وأيادى.