فى فيلم العصفور الذى أخرجه المخرج الكبير يوسف شاهين فى عام 1972، أى بعد سنوات قليلة أعقبت نكسة يونيو 1967، وقبل عام من الانتصار العظيم، وقدمت فيه الفنانة الكبيرة "محسنة توفيق" شخصية "بهية" الرمز الدائم لمصر، نجدها فى نهاية الفيلم تصرخ بعد انتهاء خطاب التنحى للرئيس جمال عبد الناصر الذى قدمه يوم 9 يونيو أى بعد أيام قليلة من الهزيمة المنكرة، تصرخ بهية "هنحارب .. هنحارب" وعندما تجرى إلى الشارع تكون الجموع قد سبقتها إلى هناك.
إننى حتى اليوم، كلما استمعت إلى خطاب جمال عبد الناصر تمتلئ عيناى بالدمع، وكلما شاهدت نهاية فيلم العصفور تمتلئ روحى بالحماسة، لذا فإننى أصدق تماما أن الشعب المصرى الذى هتف "هنحارب" والذى طالب ببقاء عبد الناصر على رأس السلطة كانوا أناس يعبرون عما يشعرون به فى اللحظة، ويمكن تحليل ذلك من خلال 7 إشارات هى:
نبرة صوت الزعيم
كان صوت عبد الناصر "مختنقا" كأنه انتهى من البكاء حالا، هذا ما تشعر به عندما يقول الرئيس "أيها الأخوة"، كما أن النداء نفسه الدال على المشاركة، يجعل الجميع على أهبة الاستعداد، كما أن تقسيم الجمل وإيقاعها، كان يمنح مساحة كافية لجمال عبد الناصر كى "يتنفس" لكنه لا يغير نبرة صوته، هذه النبرة الحزينة التى لم يشهدها الناس من قائدهم من قبل كانت "كافية" ليعرفوا أنه "يعانى" مثلهم، وبينما هو يلقى خطابه عليهم، كانت عيونهم غارقة فى دموعها.تحليل عبد الناصر للأزمة
كان للأسباب التى ساقها الرئيس جمال عبد الناصر فى الخطاب، والتى تكشف أن إسرائيل المتربصة بالعرب عامة ومصر خاصة كانت ستقوم بفعلتها على أى حال، وأنها لم تكن تنتظر بأن يقوم المصريون بأى فعل ضدهم، وأن اعتداءهم على سوريا يعنى أنهم سيتجهون بعد ذلك إلى القاهرة، هذه الأسباب وغيرها مما ضمها خطاب التنحى تتفق مع ما يعرفه الشعب عن "الصهاينة" العدو الأول للشعوب العربية جميعا، وبالتالى تحرك بهم الخطاب ناحية أن مصر "مقصودة" بشكل خاص، وأن الأمر ليس له علاقة بأخطاء الساسة المصريين، وليس له علاقة بإثارة غضب "إسرائيل".تحمل عبد الناصر المسئولية
أما الجزء الأساسى الذى لعب دورا كبيرا فى الحالة النفسية للشعب المصرى فهو تحمل جمال عبد الناصر للمسئولية، وعلى حد قوله "فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدونى عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أى منصب رسمى وأى دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأى مواطن آخر"، فلم يكن أى من الشعب المصرى على استعداد لتحمل ذلك الأمر وحده، فقد احترموا فى داخلهم أن يتحمل "ناصر" هذه الكارثة، وبينما هم غاضبون من كل شىء كانت أرواحهم شاكرة للرئيس تحمله المسئولية، وفى ذلك دلالة على قوة شخصيته وشجاعته التى يعرفونها عنه.الحياة بدون ناصر
لو قلت لك، إن الخطأ الأكبر الذى صنعه النظام الناصرى، هو أنه صنع جيلا لم يتخيل أن تمر الحياة دون وجود ناصر، بكل ميزاته وعيوبه، فصدقنى فى ذلك.
لقد تشكل جيل كامل من الشباب على عقيدة أن جمال عبد الناصر هو أكثر أفراد الشعب محبة للوطن، وأكثره تضحية، هذا الجيل، عندما سمع تنحى "ناصر" لم يصدق نفسه، ظن أن هذا الكلام معناه نهاية "مصر" وطبعا كان ذلك خطأ كبيرا ، لكنه كان حقيقة لدى البعض، الذين تداخل معهم الشخص والوطن وتشكل فى هيئة عبد الناصر الذى يريد أن يتركهم الآن.
تصديق الهزيمة
لك أن تتخيل أن الكثيرين لم يصدقوا هزيمة مصر حتى خروج عبد الناصر واعترافه بذلك فى الخطاب، مستخدما كلمة "نكسة"، هؤلاء الذين صدقوا للمرة الأولى صرخوا من ألم الهزيمة التى عبرت إلى أنفسهم فى هذه اللحظة إلى أرواحهم، فخرجوا إلى الشوارع رافضين الهزيمة.محبة الوطن
علاقة الشعب المصرى بوطنه علاقة عاطفية تماما، هذه سمة رزقهم الله إياها، لم يقبلوا أبدا أن يروا وطنهم فى هذه العثرة الكبرى، التى أطاحت بكثير من الثوابت.
لذا فإن رفضهم لتنحى "ناصر" كان جزءا أساسيا من محبة الوطن ورغبته فى الاستمرار.
عدم قبول الهزيمة
كان هتاف المصريين فى الشوارع "هنحارب" وهى لفظة دالة على رفض الهزيمة، والاستعداد للحرب والنصر، لقد اعتبر المصريون ما حدث بوطنهم "نكسة" ولم يروها "هزيمة" لذا طالبوا بالحرب من جديد.
كان كثيرون يرون أن تنحى "ناصر" معناه "الهزيمة" فخروج ناصر من القيادة يعنى أن إسرائيل قد حققت أهدافها كاملة، أما بقاؤه فذلك معناه "العودة".
هذا رأيى فيما حدث للشارع المصرى وصفوفه عندما سمع الناس بخطاب التنحى، بعيدا عن كلام السياسيين والمؤرخين الذين قد تكون لديهم أدلة ووثائق تقول رأيا آخر غير ما قلته، وبالطبع لهم كل الاحترام.