رغم أننى لست طبيبا، ولم أدرس الطب بالمعنى الأكاديمي المعروف، إلا أن هذا العلم قد أسرنى منذ نعومة أظافري، وزاد اهتمامي به مع مرور الوقت، وقد كان ذلك من باعث معرفي ومنظور فلسفى، ورغبة في الوقوف على أسباب الحياة والموت والعلاقة بين الصحة والمرض وفلسفتهما.
و خلال رحلة طويلة من البحث والاطلاع فقد خلصت إلى أن العلاقة بين اللذات - الطعام مثالا - والصحة هي علاقة عكسية: فكلما زادت الأولى تراجعت الثانية.. فيما العلاقة بين اللذة والمرض هي علاقة طردية..أي كلما زاد الافراط في اللذة زاد المرض و تعددت جوانبه .
وعندما يأتي ذكر اللذة تتجلى على الفور الفلسفة "الابيقورية"، وهي الفلسفة التي أسسها الفيلسوف الإغريقي أبيقور وشاعت في القرن الثاني قبل الميلاد وسيطرت على حوض البحر المتوسط بأكمله خلال تلك الفترة.. وجوهر هذه الفلسفة يقوم على "أن الغاية من الحياة هو اللذة"، وأنها (اللذة) هي الخير المطلق ونقيضها هو الألم والشر.. ورغم ان منهج هذه الفلسفة ومحورها هو البحث عن اللذة والمتعة إلا أن ترتيب اشباع اللذات بحسب السلم الأبيقوري للمتع جاء على غير المتوقع.. حيث وضع ابيقور اللذات الحسيه الضرورية اللازمة للحياة وفي مقدمتها الطعام في ادنى درجات هذا السلم، واعتبرها ابيقور لذات فارغة باطلة يمكن اشباعها بسهولة. ناصحا بضرورة الاكتفاء بالقليل منها ومحذرا من خطورة التمادي فيها او الاكثار منها. مؤكدا بان الافراط في هذا النوع من اللذات يعقبه الكثير من الألم و الندم.. مشيرا الى انه " من الحماقة ان يضحى الانسان بصحته في سبيل اى متعة او لذة أيا كانت ."
وعلى الجانب الآخر، فإنه وبحسب السلم الأبيقوري للذات تتربع المتعة العقلية والفكرية على قمة هذا السلم بامتياز.. حيث يصفها ابيقور بالمتعة المطلقة التي لا تفرغ و لا تنتهى ، و انها على خلاف المتع الحسية، كلما تزود الانسان منها كلما ازداد تعطشا اليها وطلبا لها. كما يرى أنها اللذة الوحيدة التي يغيب عنها أى ألم جسدى أو اضطراب نفسى، بل انها على العكس من اللذات الحسية تجلب لصاحبها الهدوء والطمأنينة وتحرره من الألم والهم والملل..
خلاصة القول، فإن الحكمة بحسب الفلسفة الأبيقورية التي بين أيدينا تقضى بان اللذات الحسية كالطعام والشراب وغيرها - رغم أهميتها للحياة والبقاء - فإنها مقرونة بالألم والندم، وتشدد هذه الفلسفة على ان التضحية بهذه اللذات، او بالأحرى تجنب الافراط فيها في سبيل تجنب الألم هو الحكمة والفضيلة المنشودة.
وعودة لما بدانا به (العلاقة بين اللذة والصحة والمرض) فإننا اذا ما ربطنا بين هذه الفلسفة وسلوكياتنا، على سبيل المثال مع الطعام والشراب كمتعة ولذة محورية في حياتنا، الى جانب غيرها من المتع الأخرى المعروفة.. فإننا قد نخلص الى نتيجة مفادها انه " لا شيء في هذه الحياة بلا ثمن ".. فاذا ما اختار الانسان ان يفرط في هذه اللذات فليعلم انها مقرونة بألم حاضر- مؤقت - قد يعقب هذا الافراط مباشرة، وألم آخر - مستقبلى - مزمن مقرون بالندم.
إنه الأمر الذى يقتضى الإنصات إلى ابيقور "فيلسوف اللذات" ودعوته إلى إعمال العقل والحكمة في تعاطى تلك اللذات الحسية المقرونة بالألم والندم.. وليدرك الانسان ان التضحية بالصحة في سبيل استجلاب اى لذه هو الحماقة في ابشع صورها..
وليكن المنهج القويم هو:
"كلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين"
صدق الله العظيم
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة