نواصل مع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) التوقف سريعا أمام مشروعه الفكرى الذى ظهر فى كتبه العديدة المتنوعة، التى انطلقت من ثقافة عربية مصرية إسلامية، واليوم نتوقف مع كتابه "إبليس".
يقول العقاد فى الكتاب تحت عنوان "فاتحة خير":
يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير، وهى كلمة رائقة معجبة تروع المسامع وتستحق فى بعض الأذواق أن تقال، ولو تسامح القائلون والسامعون فى بعض الحقيقة طلبًا لبلاغة المجاز.
ولكنها فى الواقع هى الحقيقة فى بساطتها الصادقة التى لا مجاز فى لفظها ولا فى معناها، ولا تسامح فى مدلولها عند سامع ولا قائل، بل هى من قبيل الحقائق الرياضية التى تثبت بكل برهان، وتقوم الشواهد عليها فى كل مكان.
فقد كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يُعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده ونياته.
كان ظلام لا تمييز فيه بين طيب وخبيث، ولا بين حسن وقبيح، فلما ميز الإنسان النور عرف الظلام، ولمَّا استطاع إدراك الصباح استطاع أن يعارضه بالليل، وبالمساء.
كانت الدنيا أهلًا لكل عمل يصدر منها، ولم يكن بين أعمالها الحسان وأعمالها القباح من فارق إلا أنَّ هذا يَسرُّ وهذا يسوء، وإلا أنَّ هذا يُؤمَن وهذا يُخاف، أما أن هذا جائز وهذا غير جائز فى ميزان الأخلاق، فلم يكن له مدلول فى الكلام، ولم يكن له — من باب أولى — مدلول فى الذهن والوجدان.
وكانت القدرة هى كل شيء.
فلما عرف الإنسان كيف يذم القدرة ويعيبها عرف القدرة التى تجمل بالرب المعبود، والقدرة التى لا تنسب إليه، ولكنها تنسب إلى ضده ونقيضه.
وهو الشيطان.
وكانت فاتحة خير لا شك فيه.
كانت فاتحة خير بغير مجاز وبغير تسامح فى التعبير.
وكانت للإنسان عين يعرف بها الظلام؛ لأنها عرفت النور وخرجت من غيابة الظلمات التى كانت مطبقة عليه.
فتاريخ الإنسان فى أخلاقه الحية لا ينفصل من تاريخ الشيطان.
وأوله هذا التمييز بين الخير والشر.
ولكنه الأول فى طريق طويل لم يبلغ نهاية مطافه.
فبعد التمييز بين الخير والشر خطوة أخرى ألزم من تلك الخطوة الأولى فى تاريخ الأخلاق الحية.
وتلك هى معرفة الخير فى الصميم.
فقد كان على الإنسان أن يعرف حقيقة الخير ليعمله على علم وبصيرة.
فليس الخير خلوًا من الشر وكفى.
وليس الخير ابتعادًا من الشر وكفى.
وليس الخير عجزًا عن الشر وكفى.
وليس الخير مخالفة للشر وكفى.
كلا، بل الخير شيء قائم بذاته، وليس قصاراه أنه امتناع من شيء سواه.
الخير هو القدرة على الحسن مع القدرة على القبيح، وهو الاختيار المطلوب بعد التمييز بين القدرتين.
ولهذا عرفنا من تاريخ الشيطان أنه سقط؛ لأنه أنف من تفضيل آدم عليه وعلى الجان والملائكة أجمعين.
وإنما فُضِّلَ آدم عليه؛ لأنه عرضة للخير والشر، ولأنه مطالب بالخيرات وهو ممتحن بالشرور.
فُضِّلَ على الملائكة الذين لا يصنعون الشر لأنهم بمنجاة من غوايته، وَفُضِّلَ على الجان الذين لا يختارون بين نقيضين.
ومن تلك الآونة عُرِفَت وظيفة الشيطان فى هذا العالم، وَعُرِفَت معها فضيلة الإنسان.
فإنما وظيفة الشيطان أن يثبت عجز الإنسان أمام الغواية والفتنة، وأن يمتحن مشيئته وهو يتردد بين الخير والشر، والمباح والحرام.
وإنما فضيلة الإنسان أن يصنع خيرًا وللشر عنده غواية وله فى نفسه فتنة، ولولا ذلك لما كان له فضل على الملائكة ولا على الجان.
لا جرم كان تاريخ الشيطان تاريخًا للأخلاق الحية فى وجدان آدم وبنيه.