نشاهد اليوم لوحة دنيا المحبة للفنان عبد الهادى الجزار، والتى أبدعها فى عام 1952، التى يصور فيها تصورا غرئبيا للحياة، حتى أننا نحاول كثيرا لفهم اللوحة، المفتوحة على أفق الاحتمالات.
ونستعين فى فهمنا للوحة بما كتبه "صلاح قاسم" ونشره "صلاح بيصار" على موقع التواصل اللاجتماعى "فيس بوك":
لا تزال رحلة الغوص مع "الجزار" فى مستنقع الميثولوجيا الملفوفة بالتناقض والغموض مستمرة فى قاع المجتمع الشعبى، بينما ظل الفنان يستدعى الانطباعات والصور المتنافرة من مخزون عقله الباطن، مغلفة بحس تشاؤمى مُبهم، حيث يتصارع الموت مع الحياة، والرغبة الجسدية مع العبادة والتصوف، والعجز والجدب مع الخصوبة والخير والعطاء
فى لوحة "دنيا المحبة" (1952) التى لا ندرى ما إذا كان أبطالها يجلسون عند باب الحارة القديمة، أو فى باحة مسجد، أو وكر للبغاء، أم أنهم يؤدون فصلا من الجنون على خشبة مسرح العبث؟ حيث جلست المرأة بثيابها الريفية، مستندة على الرجل، وقد مالت برأسها، مسبلة العينين، بإيماءة موحية، ممسكة سنبلة، تشير رمزيا إلى خصوبة المرأة الريفية وقدرتها على العطاء، مُتحرِّقة رغبة لرجل مخنث، لا يستطيع التواصل معها، بملامحه الأنثوية، وخديه الناعمين.. يتدلى القرط من أذنيه، ويطوِّق الكردان عنقه، بثوبه الأبيض ذو الطوق المستدير على الصدر كثياب النساء، وغطاء الرأس المزركش الذى يشبه مناديل رأس بنات البلد. وبينما أشارت له بسنبلة العيش، نرى الأفعى، رمز الموت، تتدلى من يده، ليقطع عليها الشك باليقين، فتدرك أنه عاجز عن مبادلة "الهوى" مجدب، عقيم.
وقد شكَّلت كل وحدة من وحدات المشهد علاقة رمزية، تدور فى تقابلها مع الوحدات الأخرى حول الصراع الأبدى بين متناقضات الحياة، حيث صنعت أشكال السنبلة والطائر والبيضتين والثعبان.. علاقة تدور العين غبرها فى حلقة تنطوى على مضمون رمزى بالغ الإيحاء والدلالة، فجلس الطائر على حافة الآنية يراقب بشغف حبات القمح، غير عابئ بتأهب الثعبان للانقضاض عليه، وأكملت البيضتان فى الآنية دورة الميلاد والموت، وبينهما الحياة والرزق. أما الرجل المخنث فيعزف مع المرأة على نفس الأوتار لحنا آخر لصراع المتناقضات، بين رغبة المرأة الممسكة برمز الخصوبة، فى مقابل عجز المخنث القابض على الموت عن التواصل- رغم التحامه بها. أما الخلفية فقد احتوت على مزيد من العلاقات المتناقضة، حيث يتقابل الرجل الساجد يصلى مع غواية المرأة العارية، وبينما اتجه بصلاته نحو فتحة فى جدار، تشبه فتحات القبور فى الريف (ربما ليوحى أن مثل هذا القابض على دينه فى قاع المجتمع المكتظ بالعبث والمجون.. إنما يميل نحو الآخرة)، نجد المرأة العارية وقفت أمام تجويف يشبه المحراب، لتضيف إلى المتناقضات فصلا من العبث، وقد تقابلت- أيضا- مع امرأة على الجانب الآخر، اتشحت بالسواد، بالقرب من أريكة خشبية عتيقة، لا يجلس عليها أحد، توحى بانتظار هذه الجنوبية الأبدى للمجهول.
وقد توافقت معالجة الأشكال المُحوَّرة مع غرابة الموضوع، بمفرداته التى استدعاها الفنان من اللاوعى، فخرجت مبهمة، متنافرة، تثير الدهشة والحيرة.. حيث احتل مركز التكوين نصب المرأة الريفية (أم الخير) ودرويشها الرفاعى المخنث مركز التكوين، يشبهان تمثالين عملاقين، بأطراف مبالغ فى ضخامتها، بدت كأنها قُدَّت من حجر، واتسقت مع تلخيص الكثير من تفاصيل كتلة الرجل النحتية المصقولة الراسخة، لتضيف المزيد من الإيحاء بسكونيته وجموديته وعجزه، فى مقابل ليونة ثنيات أردية المرأة والأساور المدندشة التى أضفت عليها قدرا من الحيوية، اتسقت مع ملامحها ذات الإيماءة الموحية.