نواصل مع المفكر العربى الكبير الدكتور طه حسين (1889- 1973) قراءة مشروعه الفكرى المهم الذى يعد علامة بارزة على النهضة المصرية، ونتوقف اليوم مع كتابه "الوعد الحق"، والكتاب صياغة لقطاع من التاريخ بأسلوب قصصى ينحو نحو الدرامية حينا، وذلك حين يصور الصراع فى نفس الفرد بين المعتقدات القديمة والدين الجديد، أو المحاورات بين المشركين والمؤمنين، أو أحداثا تاريخية مثل محاولة أبرهة الحبشى ملك الحبشة هدم الكعبة المشرفة وحبوط عمله .
ومن أجواء الكتاب:
قال ياسر بن عامر لأخويه مالك والحارث: عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، أو اضربا إن شئتما فى الأرض العريضة؛ فأما أنا فمقيم، قد أعجبتنى هذه الأرض فلست أعدل بها أرضًا أخرى، ورضيت بهذه الدار فلست أبغى بها بديلًا، وما رحيلى عن أرض وجدت فيها الأمن بعد الخوف، والقوة بعد الضعف، والسعة بعد الضيق. قال أخوه مالك: بل قل ما رحيلى عن أرض فيها هذه الفتاة السوداء التى لا تملك من أمرها شيئًا، ولكنها تملك من أمرك كل شيء. قال ياسر: فظُنَّا بى ما شئتما من الظنون، ولكنى مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحوَّل عن هذه الدار.
قال الحارث: بُعْدًا لك من فتى يؤثر الغربة على قرب الدار، ومضرَ على قحطان، وقريشًا على عَنْس، ويْحَك؛ إنك لا تأمن أن تُسامَ الخسف وتُحمَلَ على ما تكره، ثم تلتمس العون فلا تجده، وتبتغى النصير فلا يجيبك إلا من يخذُلك ويعين عليك.
قال مالك: وإن فتاتك هذه السوداء لم تنجم من أرض مكة ولم تنزل من سمائها، وإنما جُلِبتْ إليها فيما يُجلَب إليها من الرقيق، وإن شئت وجدت أمثالها فى كل منزل تنزل فيه، وإن شئت احتلنا لك فيها حتى نخطفها وتعيش معها آمنًا بين بنى أبيك وذوى مودَّتك.
قال ياسر: ضعَا هذا الأمر كيف شئتما؛ فإنى مقيم لن أبرح هذه الأرض، ولن أتحوَّل عن هذه الدار، ولن أجزى أبا حُذَيفةَ عن الحسنة بالسيئة، ولا عن المعروف بالمنكر، ولن أرزأه شيئًا فى ماله وهو الذى قد آوانا وقرانا وأحسن مثوانا. عودا إن شئتما إلى أرض اليمن، واضربا إن شئتما فى الأرض العريضة، فأما أنا فمقيم، وما أرى إلا أن لى فى هذه الدار شأنًا.
قال الحارث: شأن الرقيق الذى لا يُستكرَه على الرِّق، وإنما يسعى إليه سعيًا، ويمعن فيه إمعانًا! فإن رفق القوم بك وآثروك بالخير فشأن الحليف الذى يُعال ولا يعول.
قال ياسر: عودَا إن شئتما فإنى مقيم.
قال الحارث لأخيه مالك: دَعه، فما علمته إلا نَكِدًا لا خير فيه.
•••
ورأى الصبحُ حين أسفر من الغد غلامين يخرجان من مكة يقودان راحلة قد وهبها لهما أبو حذيفة بن المغيرة، ويسعى معهما أخوهما ياسر سعى المودِّع لا سعى مَن أزمع الرحيل، وكان هؤلاء الفتية الثلاثة قد خرجوا من دارهم بتهامة اليمن يلتمسون أخًا لهم فقدوه، فطوَّفوا فى الأرض ما طوَّفوا، وبحثوا عن أخيهم ما بحثوا، فلما استيأسوا منه عادوا إلى أرضهم، ومروا بمكة أثناء عودتهم، وقد بلغ منهم الجهد، وأضناهم سفرٌ غير قاصد. فقال بعضهم لبعض: نأوى إلى هذه القرية فنلم ببيتها، ونسأل آلهتها، ونصيب فيها حظًّا من راحة، ونسأل أهلها معونة على ما بقى لنا من الطريق.
وأووا إلى مكة، وطافوا بالبيت، وسألوا الآلهة فلم يجدوا عندها شيئًا، ثم أقاموا فى المسجد ينتظرون أن تغدو قريش إلى أنديتها. فيمر بهم، حين يرتفع الضحى، أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي، فيرى ما أصابهم من الضر، فيضمهم إليه ويكرمهم، كما تعوَّدت قريش أن تكرم الضيف.
وكان أبو حذيفة قد وَكَّل بخدمة هؤلاء الضيف سميَّةَ بنت خياط، أمة سوداء، فى أول الشباب، عليها من الجمال نضرةٌ قاتمة بعض الشيء، وفيها من الشباب خفة ومَرحٌ ونشاط، وفى لسانها المستعرب عذوبةٌ حسنة الموقع فى الآذان والقلوب.
فكانت تغدو على هؤلاء الفتية بطعامهم أولَ النهار، وتروح عليهم بطعامهم إذا أقبل الليل، وتعمل فى خدمتهم بين ذلك، وتتحدَّث إليهم، وتسمع منهم بين حين وحين، وكأنها قد وقعت فى نفس هذا الفتى فحبَّبت إليه الإقامة بمكة. ومن يدري؟! لعله أن يكون قد تحدَّث إليها فى شيء من ذلك فأحسَّ منها مثل ما أحس من نفسه: ميلَ الغريب المستوحش إلى الغريب المستوحش.
وقد همَّ الفتى أن يحمل نفسه على ما تكره، ويعود مع أخويه إلى حيث ينتظرهما أبٌ شيخ حزين وأمٌّ شيخة ملتاعة، ولكن الفتى لم يستطع أن يحمل نفسه على ما أراد. وحياةُ الناس ليست رهنًا بما يريدون، وليست مستجيبة لما يقدِّرون، وإنما هى أمور خفية يجريها القضاء، لا يؤامر فيها أحدًا، ثم يكون لها فى حياة الناس من الآثار ما لم يكن ليخطر لهم على بال. والشيء الذى ليس فيه شك هو أن الأخوين قد خرجا من مكة يقودان راحلتهما يُيَمِّمان تهامة اليمن، فضاعا فى الدنيا وفى التاريخ، ولم يعرف أحد عنهما شيئًا، كما لم يعرف أحدٌ عن أخيهما الضائع وأبويهما الشيخين شيئًا.
وعاد الفتى ياسر بعد أن ودَّعهما إلى مكة، فأقام فيها ضيفًا على أبى حذيفة أوَّلَ الأمر، ثم حليفًا لأبى حذيفة بعد ذلك، ثم زوجًا لسمية أمته السوداء تلك، ومنذ ذلك الوقت عرفته الدنيا وحفظه التاريخ.