أزمة حقيقية تشهدها عديد من أحياء الإسكندرية، تُنذر بكارثة قد تطال شوارع وعقارات ومرافق عامة، وذلك بعدما جمّدت المحافظة أعمالا إنشائية بعد بدء تنفيذها، فى إطار قرار تعليق البناء ومراجعة التراخيص الصادرة مسبقا، دون وضع ضوابط محددة أو اتخاذ إجراءات واضحة بشأن مواقع التنفيذ ومناطق الحفر، وما يُمكن أن تُسبّبه من مشكلات حال تعليق العمل، ومنع الشركات من تنفيذ أمور أساسية لا غنى عنها لضمان سلامة الموقع نفسه، أو تجنب الآثار السلبية المُحتملة على المبانى والشوارع المجاورة.
بداية اكتشاف الأمر من جانبنا كانت بالمصادفة، خلال جولة فى بعض أحياء الإسكندرية. لاحظنا وقتها مواقع عديدة تبدو كما لو أنها قيد الإنشاء حديثا لأن أعمالها فى مراحل مبكرة، سواء بانتشار أعمال الحفر بأعماق كبيرة، أو تراكم المياه فى أغلبها، أو وجود معدّات وشدّات معدنية داخل الموقع أو على مقربة منه. اعتبرنا فى البداية أنها أعمال بدأت مؤخرا بالمخالفة لتوجيهات القيادة السياسية وقرارات مجلس الوزراء ووزارة التنمية المحلية، فسألنا المارة والمواطنين فى نطاقها عن الأمر، وهل أبلغوا الجهات المعنية ببدء تلك الأعمال رغم قرارات وقف التراخيص؟ وكانت المفاجأة الصاعقة عندما أكدوا أن تلك المواقع مُجمّدة على حالتها هذه منذ شهور طويلة، وأن كثيرين منهم تقدموا بشكاوى ومناشدات للأحياء والإدارات الهندسية التابعة، مُعبّرين عن رعبهم من تأثير هذا التجميد والحُفر العميقة وتراكم المياه على استقرار التربة، وعلى سلامة منازلهم والشوارع المحيطة بها!
كارثة مُحتملة بفعل التضارب والتهاون والتقصير
تبدأ القصة فى مارس الماضى. وقتها تحركت الحكومة بتوجيهات من القيادة السياسية لدراسة ملف مخالفات البناء وتجاوز التراخيص وإهدار الاشتراطات الإنشائية وفوضى الزحام وانتظار السيارات، ووجه رئيس الوزراء مصطفى مدبولى مطلع أبريل، وزير التنمية المحلية بالتنسيق مع المحافظين لاتخاذ إجراءات واضحة فى هذا الشأن، بعدها وجه الوزير محمود شعراوى كتابا للمحافظات بتاريخ 6 أبريل، لمتابعة ملف المخالفات وتراخيص البناء، ثم تبعه كتاب دورى آخر بتشكيل لجان فنية لتحديد الأماكن والأحياء كثيفة السكان لوقف التراخيص فيها، وتحديد أماكن الاستثناء، ومراجعة التراخيص سابقة الصدور والتأكد من استيفائها الشروط قبل السماح لأصحابها باستكمال العمل.
فى ضوء تلك التوجيهات أصدر محافظ الإسكندرية اللواء محمد الشريف قرارا تنظيميا برقم 314 لسنة 2020 بتاريخ 15 أبريل، ينص على وقف إصدار تراخيص بناء جديدة، مع تشكيل لجنة لتحديد الأحياء الكثيفة والأماكن المستثناة، ومراجعة التراخيص السابقة. تبعه القرار 315 لسنة 2020 بتاريخ 19 أبريل، متضمنا قوام اللجنة وتشكيلها، على أن تنعقد مرة واحدة أسبوعيا على الأقل، وجواز أن يدعوها المحافظ لمزيد من الاجتماعات، وبالفعل انعقدت اللجنة لأول مرة وأصدرت توصياتها بتاريخ 23 أبريل، شاملة الأحياء كثيفة السكان التى يتوقف إصدار تراخيص بناء بشأنها فورا، والمناطق المستثناة، وتبقى أن تنعقد دوريا لمراجعة التراخيص سابقة الصدور، وبعضها كان أصحابه قد بدأوا العمل بالفعل، لكن هذا لم يحدث!
توالت الأسابيع بدون انعقاد اللجنة أو نظرها للتراخيص والتزامها بالاشتراطات الإنشائية حتى تتمكن الشركات والمقاولون من استكمال الأعمال. واستمرت تلك الحال أكثر من شهرين، حتى أصدر المحافظ قرارا جديدا فى 25 يونيو برقم 486 لسنة 2020، متضمنا تشكيل لجنة عليا للغرض نفسه، وبينما يُحدد القرار صلاحيات اللجنة بالإشراف على عمل اللجنة السابقة، واعتماد القرارات بشأن التراخيص الجديدة أو مراجعة التراخيص السابقة، وتشكيل لجان فرعية بالأحياء والإشراف عليها، لا ينص بأية صورة على إلغاء اللجنة المشكلة بالقرار 315، لكن ما حدث فعليا أن اللجنة القديمة لم تنعقد وكأنها اعتبرت القرار إلغاء لها، بينما لم تنعقد اللجنة الجديدة أيضا، وبالتالى لم تُشرف على الأعمال السابقة، ولم تتخذ أى قرار جديد بشأن التراخيص القائمة وبطن المدينة المفتوحة بعشرات المشروعات والأعمال الإنشائية.
ما حدث باختصار، أن الشركات والمقاولين حصلوا على تراخيص خلال العام 2019 وما قبل، وشاء حظهم السيئ أن يتأجل العمل حتى أواخر العام الماضى أو الشهور الأولى من 2020، وبعدما بدأوا العمل صدرت توجيهات الحكومة للمحافظين بوقف البناء ومراجعة التراخيص السابقة، فما كان من المحافظ إلا أن بادر بإصدار قرار بإيقاف كل الأعمال الإنشائية، ثم شكّل لجنة لمراجعة التراخيص القديمة قبل السماح للشركات باستئناف العمل، ولم يُتابع التزامها بالصلاحيات والجدول الزمنى المحدد للعمل، وتركها بين التهاون والتقصير شهرين كاملين، ثم أصدر قرارا بتشكيل لجنة جديدة اعتبرها "لجنة عليا" أو مشرفا عاملا على عملية المراجعة، ليحدث تضارب بين اللجنتين ومن قلب هذا التضارب يتعطل الأمر شهرين جديدين بدون فحص أو مراجعة أو قرار.
عشرات المبانى والشوارع تحت التهديد
مع صدور قرار المحافظ رقم 315 بشأن تشكيل اللجنة الأولى بادر عشرات من أصحاب المشروعات قيد التنفيذ بمخاطبة ديوان المحافظة ورئيس اللجنة طالبين عرض ملفات التراخيص واستيفائها الاشتراطات التنفيذية وضوابط الارتفاعات والجراجات على اللجنة للفحص واتخاذ القرار، ومرت الأسابيع دون موقف أو رد أو تحرك جاد. ومع صدور قرار المحافظ رقم 486 بتشكيل اللجنة الثانية تكررت الخطوة نفسها، ولم تتخذ المحافظة أو أى من اللجنتين، أو حتى اللجان الفرعية المنصوص على تشكيلها فى الأحياء إجراء باتجاه الفحص وإعلان قرار، سواء بالقبول أو الرفض أو السعى لتغيير الوضع القائم فى عديد من المناطق والأحياء، والمحاط بمخاطر كبرى من التأثير على تربة تلك المناطق أو التسبب فى هبوط للشوارع أو انهيار للمبانى.
يُعلق أحد المستثمرين العقاريين ومالك واحد من تلك المشروعات المعلقة "رفض الإفصاح عن هويته خوفا من مواجهة رد متعسف من المحافظة بحسب تعبيره" على هذا الوضع الشائك بالقول إن ما يحدث بمثابة تقصير واضح وحالة مفتوحة من التراخى بدون إعلان أسباب، مشددا على أن عدم التحرك بشكل عاجل يهدد بكارثة قد تطال عقارات وشوارع فى أنحاء المحافظة، بينما تقف الشركات والمقاولون عاجزين عن تجاوز العقبات المفروضة عليهم قهرا بسبب تهاون اللجان وعدم اهتمام مسؤولى المحافظة.
يؤكد المصدر، أن طبيعة الإسكندرية كمحافظة ساحلية تفرض شروطا بالغة الصرامة فى التعامل مع الأعمال الإنشائية، سواء بشأن قيود الحفر، أو تدعيم الحوائط الساندة وشفط المياه، وضوابط إنشاء القواعد الخرسانية بما لا يتسبب فى خلخلة التربة بشكل قد يخلق هبوطا أرضيا أو يزعزع أساسات المبانى المجاورة، وفى النهاية قد يتسبب فى كارثة مع انهيار عقار أو تضرر الشوارع وما تشتمل عليه من مرافق وخدمات، سواء كابلات الكهرباء والهواتف أو خطوط المياه والصرف والغاز الطبيعى.
بحسب المصدر يبدو الموقف مزعجا ومثيرا للرعب، بين تعليق إلزامى للعمل طوال شهور، وإجراءات ضرورية بشأن شفط المياه مع المنع من تنفيذ أية إنشاءات، حتى لو كانت لتدعيم مناطق الحفر، لافتا إلى أن الخطر الداهم حاليا هو أن يتسبّب هذا التجميد فى انهيار عقارات أو هبوط شوارع، ووقتها سيكون الأمر مسؤولية المحافظة ولجانها، لكنه يخشى فى الوقت نفسه من أن تحاول بعض الأطراف تحميل الذنب للشركات التى لا يد لها فيما يحدث، متابعا: "المهندس الاستشارى فى مشروعى طلب إخلاء مسؤوليته عن الموقع، وقال لى صراحة: عندما تحدث كارثة لن يتحملها المسؤولون الحقيقيون، وسيُضحّى موظّفو المحليات بنّا دون اعتراف بالإهمال والخطأ والمسؤولية عن الواقعة".
ويشرح مصدر آخر وثيق الصلة بقطاع الاستثمار العقارى فى الإسكندرية حجم الأزمة بالإشارة إلى أحد المشروعات الخاصة بشركة كبرى فى المحافظة، موضحا أن الموقع الذى يبلغ عدة آلاف من الأمتار المربعة محفور بعمق 6 أمتار، وقبل تنفيذ حوائط الدعم صدر قرار المحافظ بتعليق العمل، بينما يمتلئ المكان بالماء، وتواصل شركة مياه الشرب الحكومية شفطها دوريا، ما يُهدّد بخلخلة التربة أسفل الطريق والمبانى المجاورة، وفى النهاية قد يتسبب ذلك فى كارثة، لا لشىء إلا أن المحافظة ولجانها لم تلتزم بالضوابط المعلنة من الحكومة، وبما نصّت عليه قرارات وزير التنمية المحلية وعدّة كتب دورية صادرة عنه، بل إنهم لا يلتزمون بقرارات محافظ الإسكندرية اللواء محمد الشريف نفسه، وبما حدّده من ضوابط تنظيمية ومواعيد للاجتماعات ومراجعة التراخيص والإنشاءات الجارية ومدى التزامها بالضوابط، وإصدار قرارات جادة بشأنها.
هل تتحمل المحافظة والأحياء مسؤولية الكارثة؟
الموقف الراهن يبدو معقدا ومثيرا للمخاوف، فالمحافظة التى تعيش مشكلات عديدة على صعيد الأحياء ومخالفات البناء وتجاوز الاشتراطات الإنشائية، وتهالك خدمات ومرافق بعض المناطق، وتكرار انهيار مبانٍ وعقارات، تحتاج طوال الوقت إلى إجراءات فنية خاصة جدا للتعامل مع طبيعتها الساحلية وتأثير ذلك على التُربة واستقرار الشوارع والأساسات، لكن رغم ذلك تسمح أجهزة المحليات والإدارات الهندسية فى الأحياء بأن تظل بطن الإسكندرية مفتوحة فى عشرات المواقع المحفورة بأعماق تصل إلى 6 أمتار، وأن تتراكم المياه فى تلك المساحات الكبيرة متسببة فى خلخلة التُربة والتأثير على استقرار الشوارع وأعمال الرصف وخطوط المرافق والخدمات، وعلى السلامة الإنشائية للمبانى العامة والخاصة.
مرت منذ تشكيل اللجنة الأولى فى 19 أبريل نحو 4 أشهر كان يتعين أن تجتمع فيها 16 مرة على الأقل لمراجعة التراخيص السابقة وإصدار قرارات فيها، وبالمثل فمنذ تشكيل اللجنة الثانية فى 25 يونيو مرت قرابة شهرين كان يجب عليها أن تنعقد خلالهما 8 مرات على الأقل، إضافة إلى نحو 11 لجنة فرعية نص القرار 486 لسنة 2020 على تشكيلها فى الأحياء، لو انعقدت بانتظام كان مجموع اجتماعاتها قد يتجاوز 80 اجتماعا، وبالنظر إلى حصيلة كل تلك الاجتماعات التى تتجاوز 100 كان يُمكن أن تنظر المحافظة ولجانها آلاف التراخيص السابقة، وتراجع التزامها، وتتخذ قرارات واضحة بشأنها، بما يضمن سلامة الموقف القانونى للمحافظة والأحياء، ويلقى الكرة فى ملعب الشركات والمقاولين حال تسبب التقاعس أو تأخر تنفيذ أعمال المواقع المحفورة فى كارثة تطال المرافق والخدمات أو تتسبب فى هبوط شوارع وانهيار عقارات.
بعيدا من أكوام القرارات الصادرة فى هذا الشأن، ومن عشرات القرارات واللجان والاجتماعات المعطلة والبدلات والمكافآت المخصصة للمهندسين والاستشاريين والإدارات الهندسية ومسؤولى الأحياء والأكاديميين وسكرتير المحافظة وأعضاء اللجان، ما تزال الأزمة قائمة وبطن الإسكندرية مفتوحة، وعشرات الشوارع والعقارات مهددة بالخطر الداهم نتيجة التقصير أو الإهمال أو تجاوز القانون والضوابط التنظيمية لفحص تراخيص البناء وإلزام أصحابها بالاشتراطات الإنشائية. فمن يتحمل فاتورة تلك الكُلفة والمخاطر؟ وهل يتحرك أحد قبل وقوع الكارثة؟!