كان الوقت فى الصباح الباكر يوم 18 أغسطس، مثل هذا اليوم 1828، حين اقترب العالم الفرنسى «شامبليون» من مدينة الإسكندرية، حسبما يذكر هو فى إحدى رسائله التى جاءت فى كتاب «شامبليون فى مصر، الرسائل والمذكرات» ترجمة، عماد عدلى، ومراجعة دكتور طاهر عبد الحكيم.
كانت الزيارة بعد نحو ست سنوات من خطوة «شامبليون» العبقرية بالكشف عن غموض اللغة الهيروغليفية يوم 14 سبتمبر 1822، وكان عمره واحد وثلاثين عاما، وأدى كشفه إلى فك أسرار الحضارة المصرية القديمة، فأهدى البشرية كنوزا من المعرفة فى شتى المجالات.. وبعد هذه الخطوة ووفقا لـ«روبير سوليه» فى كتابه «مصر ولع فرنسى»، ترجمة، لطيف فرج: «يمكن للرجل الذى قام بحل الخطوط الهيروغليفية أن يذهب الآن إلى مصر الملازمة للياليه منذ أمد طويل، ومع ذلك لم يعرفها إلا من خلال الكتب والقطع الفنية أو أشخاص قاموا بزيارتها».
جاءت زيارة «شامبليون» ضمن بعثة «فرنسية – توسكانية» بموافقة ملكى فرنسا وتوسكانيا (منطقة شمال إيطاليا) حسبما يذكر «سوليه»، مضيفا: «ضمت البعثة 12 عضوا ويرافق شامبليون فيها بصفة خاصة «شارل لينورمان» المفتش بالفنون الجميلة، وسكرتير ورسام شاب عاشق لمصر هو «نيستور لوت» الذى كان فى طفولته يحنط الحيوانات، ويدفنها تحت الأهرام فى حديقة والده».
قدمت البعثة من أجل استكشاف الآثار المصرية، ولتحقيق ذلك كان لابد لها أن تقابل محمد على باشا والى مصر ليعطيها الموافقة، فى وقت لم تكن الآثار تشكل لديه اهتماما، ويذكر «جيلبرت سينويه» فى كتابه «الفرعون الأخير، محمد على» ترجمة «عبد السلام المودنى»: «فى بداية حكمه كان يواجه صعوبات أكثر أهمية لدرجة تجعله لا يهتم فى هذا الوقت بالحفاظ على كتل الجرانيت والحجر الضخمة، فمن جهة علينا أن لا ننسى أنه كان أميا وبالتالى وعلى الرغم من طبيعته المهذبة، فإنه يظل عاجزا كليا عن الإدراك الثقافى وهو محارب قبل كل شىء، ودبلوماسى ورجل صناعة وتاجر، أما الآثار القديمة ومهما بلغت روعتها فلا تمثل فى ناظريه أى قيمة تجارية، وأقل من ذلك أن تكون ذات نفع عسكرى».
يسجل «شامبليون» مشاعره ويصف لحظات دخوله الإسكندرية، وينقل المشاهد التى رآها أول مرة ومنها نعرف طبيعة وأحوال هذه المدينة فى هذه الفترة «1828».. يقول فى رسالته يوم وصوله «18 أغسطس 1828»: عند الظهيرة تمكنا من رؤية عمود الصوارى وميناء الإسكندرية بالمنظار، وكلما اقتربنا من تلك المدينة تزايد إحساسنا بالهيبة، فمن خلال غابة الصوارى الكثيرة التى تغطى كل مساحة الميناء القديم تبرز أمامنا المدينة الحديثة بمبانيها المائلة إلى البياض والقليلة الارتفاع، والمشيدة بدون أى نظام، وإلى اليسار يوجد منزل إبراهيم باشا الذى يطل على البحر، وبيت صغير آخر يشغله الوزير «بوغوص» ثم بيت ثالث أكبر بكثير من البيتين السابقين مطلى باللون الأبيض، كان فى الماضى مقرا لإقامة الباشا «محمد على»، قبل أن يتم توسيعه وتحويله مكانا لانعقاد الديوان واجتماعات الباشا وتسيير شؤون الحكم، أما الحرملك فتم نقله إلى بيت خشبى جديد مزود بنوافذ لا تحصى، ويعيش فيه ما يقرب من عشرين امرأة قدمن من القاهرة عقب وصول الباشا بيومين».
يتحدث شامبليون عن لحظة دخوله المدينة: «توجهنا صوب بوابة المدينة يتقدمنا الجنديان التابعان لقنصليتين فرنسا وتوسكانيا اللذين كانا يرتديان كل منهما عمامة بيضاء وثوبا أحمر فضفاضا، ويمسكان بعصا ذات مقبض كروى من الفضة، وماكدنا نجتاز ديوان الجمرك حتى أحاط بنا حشد من الصبية الصغار الذين يرتدون ثيابا ممزقة ويسوقون حميرا جميلة، وأرغموننا على ركوب تلك الحمير ذات السروج النظيفة والمزركشة بمختلف الألوان».
يضيف شامبليون: «بعد أن أحيينا على صيحة جندى «النظام الجديد» الذى يحرس بوابة المدينة دخلنا شوارع الإسكندرية، إذا حق لنا أن نطلق هذا اللفظ على البيوت القليلة الارتفاع والنادرة النوافذ والمشيدة فى معظمها من الطين بدون مراعاة لأى نظام أو تخطيط، وعلى الرغم من حلول الليل كانت الشوارع المزدحمة بالمارة تبدو فى غاية الغرابة بالنسبة للسائح القادم لتوه من أوروبا لدرجة لا تسمح لنا بالتعبير عن انطباع الدهشة والذهول الذى استحوذ علينا، خليط عجيب من مصريين ببشرتهم السمراء وبرابرة أكثر سمرة، وبدو سود يرتدون ملابس بيضاء، وزنوج وحبشيين يملأون الشوارع الضيقة، ويتدافعون لتجنب الحمير والجياد البطيئة والمنتظمة فى صفوف طويلة وحزينة والمربوطة الواحد منها فى ذيل الآخر».
فى يوم 24 أغسطس 1828، يذهب شامبليون لمقابلة محمد على باشا.