تقودني قدماي إلى الأماكن العتيقة، فأبدو كطفلة تتعلق بإبهام أبيها وتتعثر خلفه في انتظار قطعة الحلوى التي سيشتريها لها.. غير أن التاريخ يأخذ قيلولته في أحضان الجدران الصماء عند عتبات بازار يختبئ في قلب المدينة العتيقة، ودون أن أسأل نفسي عن العلاقة بين المدينة والبازار الذي يتدثر بوشاح خشبي تُزينه نقوش وكلمات، وذاك الخط الكوفي النابض برائحة المسك والبخور، أجدني قد قضيتُ وقتاً -ربما كان طويلا- في محاولة شراء قطعة من الماضي، ولست أدري لماذا ألجأ إلى الماضي كي أقدمه هدية إلى صديقة؟!.
قطعة حُلي ضممتها في كفي.. دافئة.. أحنيت رأسي أشمها وكدتُ أسألها عن صانعها، وما مقدار الحب الذي دفعه ثمناً ليصنعها بإتقانٍ وجمال بهذا الشكل؟! وماذا كانت تفعل تلك القطعة طوال العقود الماضية لتحتفظ بملامحها أصلية من دون تشويش، ضممتها مجددًا، واقتربت من البائع، وما إن هممتُ بسؤاله عن ثمنها حتى تقدمت فتاة كي تأخذ مكاني –بلا استئذان- تستفسر عن شيء!
التفتّ إليها.. لكن ما كدتُ أتجاوزها حتى وجدت قدمي تعودان بي القهقري مفسحة المجال للفتاة، ووقفتُ مبهوتةٌ أمامها، إنها هى بعينها، تلك التي تعودت أن أراها في المرآة كل صباح.!
شعرت بقلبي يغوص بين جنبي، وكنتُ أستبعد أن تكون الفتاة قد ارتدت قناعًا صُمم خصيصًا لتشبهني، أدهشني أكثر أن البائع لم يلحظ ذلك، أحسست بشيء من الخجل، وأصابني الارتباك حين وجدتها ترمقني بنظراتها، فنظرت إلى عينيها مباشرة لأسبر غورهما، وأنفذ إلى رأسها، ثم أخذتُ أتراجع للوراء حتى وقفت في ركنٍ ليس ببعيد .
لا أفهم !
كيف أكون هنا في هذا الركن، وهناك أمام البائع في نفس اللحظة؟
كيف تكون لها ملامح كملامحي، ووجه كوجهي، وصوت وهيئة كما لي!
هل تمت سرقتي؟ وإذا كان .. كيف لم أشعر بذلك؟
ربّما تمت عملية السرقة منذ الطفولة المبكرة أو ما قبلها، لابد أنها تمت على مراحل.!
ألا يمكن أن عملية السرقة كانت في المدرسة؟ في الثانوي، أم في الجامعة؟
أبداً، لو كانت السرقة في أيٍّ من هذه المراحل فهذا يعني أني سأكتشفها، لكنّي لم أتنبه لذلك !
لكن لو كانت هذه أنا بعدما سرقوني، إذن ماذا أفعل أنا هنا؟ علي أن أختفي كما اختفى المهدي بن بركة في لحظة عصر مظلم، وكما تبخر موسى الصدر لحظة غفلة عالمية، وإقبال فليح حين احتلال، وحقيبة يدي ساعة ازدحام!
هل كانت السرقة في الحلم؟
تباً لها فلتبق في حلمي إذن.. ما لها تزاحمني واقعي؟
من سرقني؟.. اختلسني.. سلبني وصبّني لتكون هي؟
مهلاً.. هذه النظرات التي تطل من عينيها ليست أصلية.. تبدو وكأنها تنظر من خلف عدسات لاصقة لترى العالم كما يراد لها أن تراه. أستطيع أن أرى الأفكار التي تتراقص في رأسها وهي تتصفح وجوه من حولها بجبينٍ مقطب وشفتين مذمومتين، تبدو ككائن مغترب ذاب انتماؤه ويبحث في دهاليز المكان عن هويته ..!
أمعن النظر إلى وجهها فألحظ الكثير من التشوهات قد انطبعت عليه، وأن روحها خالية الوفاض من إنسانيتها !
أشعر بقشعريرة في رأسي..!
أذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي ألتقي بها.. كنت أتناول غذائي في أحد المطاعم وشاهدتها تدخل، جذبني التشابه -حد التطابق- بيننا من ملابسي، ودفعني للقيام من مكاني لأتأكد.. لكنها اختفت لحظة قيامي.. فجفل فؤادي من الأسى على نفسي قائلة: بيد أنني فقدت توازني حد تخيل أنني أشغل هيكلي إنسان في وقتٍ واحد..!
لكنها داهمتني مرة أخرى في المصعد.. أفقدتني النطق.. حين نظرتُ للمرايا التي تغطي جدران المصعد فوجدتنا أربعة.. صورتان طبق الأصل في الحقيقة، تطابقهما صورتان على سطح المرايا ! بعد دقائق.. تركتني ألملم عينياي وأغلق أبواب فمي بعد عاصفة الدهشة.. وخرجت من المصعد دون أن تلتفت لما خلفته وراءها بي.!
ها هي –اليوم– تقف أمامي ولفترة أطول من كل مرة، تقلب القطع الأثرية يمينًا ويسارا لكنها تدرك أنها غير قادرة على الاختيار، ومحاولاتها لجمع الماضي في صرة الحاضر ماهي إلا عبث في عبث.. يبهرها ما تراه لكن يدها فقدت الإحساس بحميميته فأصبحت كما الغرباء، كما السياح الباحثين عن قطرة آصالة في جذور التاريخ.
لم يعد –بالنسبة لي- ثمّة غرابة في هندامها أو اهتماماتها أو حتى أنانيتها التي فرضت بينها وبيني حصارا إلى الدرجة التي جعلتها لا تنتبه لي، ولا للتشابه بيننا شكليًا حد التطابق.. ولا ألومها على ذلك.. فهي إحدى ضحايا الاستلاب الحضاري.
ستمضي الأيام.. وعندها تنتشر تلك الكائنات التي ليس لها ملامح، وفي شارعنا الطويل تتسلق الطفيليات على جنبات الرصيف وأجدني أستقيم بين نتوء الناصية ورائحة الزيف.. لحظتها.. أفقد أدنى احترام لقامتي التي كانت مديدة.. ولحظتها أفتقد نبض المدينة الهادئة الجميلة، أفقد ملامحي.. أكون قد تلقّفني ذاك الذي يرسمني عند الضفة الخطأ من المرايا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة