"مليون انفجار في المدينة"، بهذه العبارة لخص الشاعر محمود درويش الأحوال في بيروت قبل عقود مضت في قصيدته "مديح الظل العالي"، فما بين احتلال وحروب أهلية وفراغات دستورية واقتصاد يتهاوي، عانت بيروت علي مدار السنين.. ولا يزال - كما قال شاعر فلسطين الأول - "لا جديد لدي العروبة"..
كان انفجار مخزن المرفأ فى بيرون إحدى انفجارات درويش، لكنه كان مرعبا تسبب فى موجة انفجارية هائلة طالت عنان السماء، تشابهت فى شكلها لتلك الموجة الانفجارية التى خلفتها قنبلة هيروشيما وناجازاكى في نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، لتشكل سحابة سوداء ونيران برتقالية اللون، حجبت شمس النهار لبرهة، عن أعين اللبنانين".. هذا ما أظهرته مقاطع الفيديو المختلفة المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعى لانفجار خزان فى مرفأ بيروت، عصر أمس، الثلاثاء.
شكل الانفجار مشهدا مخيفا لم تشهده لبنان من قبل حتى فى الاعتداءات السابقة، حيث هزّ كل أنحاء العاصمة اللبنانية وطالت أضراره كل الأحياء وصولا إلى الضواحي، وتساقط زجاج عدد كبير من المباني والمحال والسيارات، حتى بلغ صداه فى قبرص المواجهة للبنان على بعد 240كم، افترش الإسفلت بالضحايا، وسقط حتى كتابة هذه الأسطر نحو 100 شهيد وألاف الجرحى، وهى أرقام مرشحة للزيادة الساعات والأيام المقبلة.
وكأنه كتب على هذه المدينة التى يعيش فيها نحو مليونى لبنانى، العيش بوجع دائم، ساعات كارثية عاشتها العاصمة بيروت.. دمار هائل وصرخات استغاثة من تحت الركام، حالة هلع وخوف تسود كل لبنان، وكتبت صحيفة النهار اللبنانى ""بيروت عم تبكي اليوم، وستبكي خلال الأيام المقبلة على قرابة السبعين شهيداً وآلاف الجرحى حتى الآن"، الأمر الذى دفع بالمجلس الأعلى للدفاع لإعلان بيروت "منطقة منكوبة"، واعلان حالة الطوارئ لمدّة أسبوعين.
كان هذا المشهد الميدانى، لكن كان للكارثة وجه آخر داخل المستشفيات المنهك كوادرها الطبية اصلا من تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19" وفى لحظة وقوع الكارثة، كان قد بلغ عدد مصابى الوباء العالمى فى كل لبنان نحو 4907 وتعانى هذا البلد من ارتفاع قياسى فى الاصابات، الأمر الذى دفع الحكمة قبل أيام من اتخاذ قرار إعادة الاغلاق التام بداية من اليوم الأربعاء.
لكن يبدو أن الكارثة الصحية التى كانت تخشى منها بيروت جاءت من مكانٍ آخر، الصفعة لم تأتى من الوباء بل أتت من الداخل، فعقب الحادث أصبحت تخوض المستشفيات في بيروت معركةً أخرى غير متوقعة كانت أكثر فتكاً من الفيروس، الأمر الذى استدعى الصحة اللبنانية مناشدة المرضى لاسيما مرضى كورونا المكوث فى منازلهم والحصول على الرعاية الطبية الضرورية دون خطر نقل العدوى فى المستشفيات التى اكتظت بمصابى الحادث.
ورغم أن الحادث لم يكن الحوادث السياسية التى اعتاد عليها لبنان غير أنه سيؤثر بشكل كبير ايضا على التردى الاقتصادى الذى يعصف بالبلاد.
ولم يكد يخرج لبنان من أزمته الاقتصادية حتى جائت أزمة اخرى تضاف إلى اعباء القطاع الاقتصادى الذى يشهد أسوأ كارثة اقتصادية فى تاريخه، ويبدو أنه يسير نحو المزيد من التعقيد، فمنذ أكتوبر الماضى فقدت الليرة اللبنانية نسبة 70%من قيمتها، وهوت فى يونيو الماضى في السوق السوداء إلى 5000 ليرة، بدلا من السعر الرسمي المحدد بـ 1500 مقابل الدولار، ودخل لبنان أسوأ أزمة اقتصادية تهدد استقراره منذ الحرب الأهلية، ليأتى الحادث ويضيف إليها أزمة مالية خانقة، مرتقبة بعد اعلان جمعية المصارف اللبنانية أن المصارف بفروعها كافة ستقفل أبوابها اليوم الأربعاء لمعالجة الأضرار المادية الناجمة عن هذه الكارثة الكبرى.
وعلى مدى الأشهر الماضية ظل اللبنانيون يحتجون على الحكومة وسياساتها الاقتصادية على، تعبيرا عن سخطهم إزاء التراجع غير المسبوق في قيمة عملة بلده، وأثارت الأزمة غضب فئات اجتماعية واسعة تضررت قدراتها الشرائية بفعل انهيار العملة اللبنانية، وأصبحت شبه عاجزة عن شراء الطعام أو دفع إيجار بيوتها، فلجأوا إلى التظاهر وإغلاق الشوارع والطرقات في عدد من المدن، من طرابلس في الشمال إلى صور في الجنوب، وافترشوا الشوارع طوعا احتجاجا.
واليوم باتت أجساد ضحاياهم تفترش شوارع بيروت اثر حادث مخزن المرفأ، فهل يتسبب الحادث فى انزلاق لبنان نحو انهيار اقتصادى واجتماعى تام وتتبدد أحلامهم فى النهوض باقتصاد البلاد وحياة اجتماعية كريمة؟.. سؤال ستجيب عليه الأعوام المقبلة.. وتطوي بيروت اليوم صحفة مؤلمة جديدة من تاريخ الدم والنار، ولم تزل مناشدة درويش لفجر بيروت قائمة حين قال: عجل لنعرف جيدا أين صرختنا الأخيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة