ما تبقى من كتابات القديس أغسطينوس يفوق ما تبقى من كتابات أى مؤلف آخر من المؤلفين القدماء، ومن خلال هذه الكتابات، لم يؤثرأوغسطينوس فى معاصريه فحسب، ولكنه أثر أيضا فى التطور اللاحق الذى شهدته الثقافة الغربية، ويتعقب كتاب من سلسلة "أغسطينوس: مقدمة قصيرة جدا" تطور فكر أوغسطينوس، حيث يناقش موقفه من المفكرين الذين سبقوه، وموضوعات عدة من بينها الحرية، والخلق، والثالوث.
كان يتمتع أغسطينوس بين القدماء بقوة لا مثيل لها على التعبير عن المشاعر، وكتاباته أيضا تعد مصدرًا أساسيًا للتاريخ الاجتماعى لعصره، ليس فى وسع هذا الكتاب أن يتناول ذاك الجانب من شخصيته، لكنه يعنى بتشكل عقليته، وكان هذا التشكل عملية طويلة، حيث إنه بدل رأيه بخصوص بعض النقاط، وطور وجهة نظره بخصوص نقاط أخرى، ووصف نفسه ﺑ «الرجل الذى يكتب وهو يتطور، والذى يتطور وهو يكتب»، وكانت التحولات التى شهدها وثيقة الصلة بضغوط الخلافات المتعاقبة التى لعب فيها دورا، ولذا فإن الإشارة المرجعية للبيئة التاريخية محورية للفهم.
وبحسب المؤلف كان أوغسطينوس «أول رجل حديث»؛ بمعنى أن القارئ يشعر معه أن الكاتب يخاطبه على مستوى من العمق النفسانى غير مسبوق، ويجد أمامه نظاما متناسقا من الفكر، أجزاء كبيرة منه ما برحت تجذب بقوة الاهتمام والاحترام، ولقد أثر فى الطريقة التى تفكر بها الغرب بالتبعية فى طبيعة الإنسان وما نعنيه بكلمة «الرب».
ورغم أن أوغسطينوس كتابع من أتباع أفلاطون لم يكن معنيا بقدر كبير بالبيئة المادية الطبيعية، وألَّف مؤلَّفاته وهو يخشى أن تجرى الأبحاث العلمية دون احترام للاعتبارات الأخلاقية، فإن فرضية العالم الحديث بأن النظام الرياضى والعقلانية هما السمتان الرفيعتان فى العالم لم يكن لها من نصير بليغ فى الماضى أفضل منه. ولذا، فقد أسهم إسهاما كبيرا فى التوجه نحو النظام المخلوق الذى جعل نشأة العلم الحديث ممكنا، ومن ناحية أخرى، لا يمكن قراءة أوغسطينوس بإنصاف إذا عومل بخلاف ما كان عليه فى حقيقة الأمر؛ أعنى رجلًا من العالم القديم تشكلت عقليته وثقافته بالكامل بفعل آداب وفلسفة اليونان وروما، ووضعه اعتناقه المسيحية بدرجة ما فى صراع مع الماضى الكلاسيكى، وفيما يتعلق بهذا الماضي، وقف أوغسطينوس موقف الناقد والناقل لعالَم العصور الوسطى والعالَم الحديث.
لم يبادر أوغسطينوس قط بوضع حدود واضحة وحاسمة بين الفلسفة وعلم اللاهوت، فهو لم ينظر إلى المنطق الفلسفى كوصيف للعقيدة أو كداعر خطير مهمته إغراء العقل بافتراض أن باستطاعته الوصول إلى غايته المطلقة دون مساعدة الرب ورعايته.
وجد أوغسطينوس مقدمة إنجيل يوحنا (وهى جزء من العهد الجديد أبهر الفلاسفة الأفلاطونيين الحداثيين) تصريحا نبيلا للصورة العالمية الأفلاطونية، ولنور الرب الذى يشع فى الظلام ليعيد العالم المستوحش إلى العوالم العليا، ولكن، إذ وجد المسيحية تعبر عن الحقيقة بشكل أفلاطونى جدا، لاحظ أوغسطينوس نقطة خلافية شديدة، إذ لم تقل «كتب الأفلاطونيين» إن الكلمة صارت جسدا، لقد كان مبدأ الوحى الفريد فى سياق حياة محددة فكرة مسيحية اضطر مانى إلى تبديلها تبديلا جذريا.