كان يوم 21 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1955، موعدا لإصلاح حاسم، لم يكن محتملا أن تقدم عليه حكومة غير حكومة الثورة، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «ثورة 23 يوليو».
أما الإصلاح، فكان إلغاء المحاكم الشرعية والمجالس المُلية وإحالة اختصاصها «دعاوى الأحوال الشخصية والوقف» إلى المحاكم الوطنية، يذكر «الرافعى»: «الأصل أن يخضع جميع السكان على اختلاف جنسياتهم وأديانهم لقوانين البلاد ومحاكمها، ولجهة قضائية واحدة بصرف النظر عن نوع المسائل التى تتناولها خصوماتهم، أو القوانين التى تطبق عليها، ولكن جرى الحال على غير هذا القانون، فكانت جهات القضاء فى مسائل الأحوال الشخصية بالنسبة للمصريين أنفسهم متعددة، وكل جهة تطبق قوانينها وتتبع إجراءاتها الخاصة بغير أن تكون هناك صلة تربطها، أو هيئة عليا تشرف على قضاتها، رغم أن الدولة استردت سلطتها بالنسبة للأجانب بإلغاء المحاكم المختلطة منذ سنة 1949».
يؤكد «الرافعى»، أن «مصر ورثت نظام تعدد جهات القضاء فى مسائل الأحوال الشخصية عن الماضى، فقامت المحاكم الشرعية، وقام إلى جانبها القضاء الملى الخاص بالمسيحيين، وتعددت أيضا جهات القضاء الملى، فكان لكل طائفة قضاؤها الخاص، وقوانينها الموضوعية الخاصة، ما أدى إلى الفوضى والإضرار بالمتقاضين، حيث استتبع تعدد جهات القضاء رغبة كل جهة فى توسيع دائرة اختصاصها والاعتداء على سلطة غيرها، خاصة مع عدم وجود حدود دقيقة أو ثابتة لاختصاص كل منها، واستتبعت هذه الفوضى تنازع المحاكم بينها، وتعددت الأحكام التى تصدر فى النزاع الواحد، وكان المتقاضون ضحية تلك الفوضى، فجاء هذا القانون علاجا لتلك الحالة».
ونص القانون الجديد- وفقا لـ«الرافعى»- على: «ابتداء من أول يناير 1956 تلغى المحاكم الشرعية بالمحاكم والمجالس الملية، وتحال الدعاوى المنظورة أمامها لغاية 31 ديسمبر سنة 1955 إلى المحاكم الوطنية لاستمرار النظر فيها وفقا لأحكام قانون المرافعات وبدون رسوم جديدة، وبالنسبة للدعاوى الجديدة التى كانت من اختصاص المحاكم الشرعية أوالمجالس الملية، فإنها ترفع أمام المحاكم الوطنية»، ونص هذا القانون على أن تشكل بالمحاكم الوطنية دوائر جزئية وابتدائية واستئنافية لنظر قضايا الأحوال الشخصية والوقف، والتى كانت من اختصاص المحاكم الشرعية أو المجالس الملية، وأن تتبع أحكام قانون المرافعات فى الإجراءات المتعلقة بمسائل الأحوال الشخصية والوقف.
ونص القانون على إلحاق قضاة المحاكم الشرعية بالمحاكم الوطنية أو نيابات الأحوال الشخصية، أو الإدارات الفنية بوزارة العدل، وأجاز للمحامين الشرعيين الحضور أمام المحاكم الوطنية على أن يكون حضور كل منهم فى الدرجة التى كان مقبولا أمامها فى المحاكم الشرعية.
فيما نشرت الصحف المصرية يوم 26 سبتمبر تهنئات من كبار الشيوخ، ونشرت «الأهرام» فى 28 سبتمبر 1955 خبرا مع صورة للإمام الأكبر شيخ الأزهر عبدالرحمن تاج، وهو يشكر الرئيس جمال عبد الناصر على هذه الخطوة التحررية، لكن جماعة الإخوان- كعادتها- هاجمته، وجاء موقفها عبر فرعها فى سوريا، فحسب كتاب «ثورة يوليو والمشرق العربى -1952 1956»: «عقدت الجماعة اجتماعا يوم 30 سبتمبر 1955، عقب صلاة الجمعة فى الجامع الكبير بحلب استنكرت فيه ذلك القرار، ووزع المكتب التنفيذى التابع لها منشورات فى سوريا بعنوان «طاغية مصر يحارب الإسلام»، أشارت فيه إلى أن عبدالناصر بإلغائه المحاكم الشرعية يؤسس اللادينية فى مصر، ويتأسى بخطوات مصطفى كمال أتاتورك فى القضاء على الإسلام»، هكذا نصبت «الجماعة» نفسها متحدثة باسم الإسلام، متجاهلة «الأزهر»، وفى حمى مشاركتها فى الهجوم على ثورة 23 يوليو، استدعت قصة القاضيين الشرعيين بالمحكمة الشرعية بالإسكندرية، «سيف» و«الفيل» والمتهمين بالرشوة الجنسية فى يوليو 1955، لتزعم أن القصة ملفقة للتخلص من هذه المحاكم، غير أن المستشار محمد سعيد العشماوى، أحد الذين حققوا فى هذه القضية، رد على هذه المزاعم بشهادة أكد فيها صحة الاتهامات الموجهة للشيخين، وقال شهادته رغم أنه أحد المعارضين لثورة يوليو، ومما جاء فيها بالنص: «بدأت تنتشر، فى الآونة الأخيرة، مقالات فى الصحف والمجلات عن إلغاء المحاكم الشرعية فى مصر، ممن لا يعرف ما يكتب ولا يعى ما يقول، تدعى رجما بالتقول وزعما بالتعمّل، أن هذا الإلغاء الذى حدث سنة1955، كان لأسباب سياسية، أو لانفعال أحد ضباط «انقلاب عام 1952» من حكم صدر ضد رغبته من هذه المحاكم، وتتعدد الأسباب، لتوهم ظنا بغير الحقيقة، وقولا يلقى بغير دراسة، أن هذه المحاكم كانت مثالية ومنضبطة، وأن إلغاءها كان ظلما وبهتانا، ويترتب على ذلك - فى الظن العليل والفهم الكليل- أن الإسلام كان هو المستهدف الحقيقى من وراء ذلك ومن جراء ما حدث، ولما كنت الوحيد الباقى على قيد الحياة، من هيئة المحكمة، وتشكيل النيابة العامة، وأعضاء الدفاع عن المحامين، ورجال الشرطة، الذين قاموا بالضبط، وشهدوا فى المحاكمة، فى قضية تُعرف باسم قضية «الفيل سيف»، كشفَتْ عن الفساد الذى كان يجرى على ألسنة الناس، من المتقاضين أمام المحاكم الشرعية، وبذلك رؤى إلغاء هذه المحاكم ودمج قضائها وقضاتها ضمن القضاء العادى.
لما كان ذلك، وكنت على ما أنف، الوحيد الباقى على قيد الحياة، من كل من له صفة رسمية فى هذه المحاكمة، فقد رأيت أن أكتب شهادتى من واقع ما قرأت فى أوراق الدعوى وما رأيت أثناء إجراءات المحاكمة، حتى تكف الشائعات التى تطلق بغير علم ودون فهم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة