تقدم موظف كبير فى إحدى الوزارات ببلاغ، بأن سيفون دورة المياه الخاص بشقة جيرانه يُشد كل ثلاث دقائق، واستنتج من ذلك أن الجيران مصابون بالكوليرا، فهاجم رجال الصحة المسكن، ووجدوا جميع سكان الشقة أصحاء معافين، إلا أن هيستيريا انتابت سيدة البيت وهى أجنبية، فراحت تشد السيفون بكثرة اتقاء لشر العدوى.
نشرت جريدة «الصباح» هذا البلاغ، الذى عبر عن الفزع والخوف من الوباء الذى اجتاح مصر منذ 22 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1947..يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الثالث من كتابه «فى أعقاب الثورة المصرية، ثورة 1919»: «ظهر وباء الكوليرا فى سبتمبر 1947، وبدأ فى بلدة «القرين» بالشرقية، وسرى منها إلى كثير من بلاد الشرقية، وانتقل إلى الوجه البحرى ثم إلى القبلى، وبلغ عدد المدن والقرى التى أصيبت به 2270 مدينة وقرية، وكان من عوامل انتشاره المياه غير الصالحة للشرب، وكثرة الذباب والقذارة، ومات منه نيف وعشرة آلاف نسمة».
كان هذا الوباء العاشر فى تاريخ الأوبئة التى اجتاحت مصر، وفقا لمحاضرة نادرة عن «تاريخ الأوبئة فى مصر خاصة وباء الكوليرا»، ألقاها الدكتور نصر الدين أبوستيت، عام 1948، ونشرتها وزارة المعارف، ونقلت منها «بوابة الأهرام، 31 مارس 2020» قوله: «وباء الكوليرا العاشر بدأ فى وقت جلاء القوات البريطانية عن الهند فى 15 أغسطس 1947، حيث كانت هذه القوات تتخذ من منطقة قناة السويس محطة لها، وكانت قوات الاحتلال تتخذ منطقة فايد لرسو السفن مخالفة لوائح الحجر الصحى، مما جعل الكوليرا القادمة من الهند تنتشر فى مصر بالتحديد 22 سبتمبر 1947».
يذكر أبوستيت، أن المناطق شديدة الإصابة به فى مصر كانت الشديدة رطوبة، حيث كانت الإصابة فى أحياء القاهرة الرطبة مثل بولاق ومصر القديمة، أشد من الأحياء الجافة فى حلوان، بينما كانت الإصابة فى شمال البحيرة شديدة، وكانت فى الإسكندرية أشد، وكان التطعيم من الكوليرا ليس ضمانًا ضد العدوى، إلا أنه يقلل احتمال الوفاة إذا حدثت الإصابة.. ويؤكد أن الوباء أصاب نحو 240 من الأطباء والممرضات فى مستشفيات القاهرة والمنصورة ودمياط، بل ظهر الوباء فى فندق شبرد ذو المستوى العالى من النظافة، ووفقا للرافعى: «انتهى الوباء فى أوائل ديسمبر 1947».
رغم العزلة المفروضة على «القرين» إلا أن الصحفى الشاب محمد حسنين هيكل، اخترق الحصار المضروب عليها، وأجرى تحقيقا صحفيا رفيعا من قلبها، نشرته مجلة «آخر ساعة، 8 أكتوبر1947»..ومما ذكره: «جزء كبير من سكان القرين من غير أهلها.. معسكر التل الكبير يقع على حدودها، ونزح إليه عمال كثيرون من كل أنحاء القطر ليعملوا فيه، واستقر جمهور كبير من هؤلاء فى القرين، وأصبحت هذه القرية التى كان تعدادها 15 ألف نسمة تضم 25 ألف دون أن يزيد على مبانيها بيت واحد.. وربما كان أهل القرين دون غيرهم من سكان قرى مصر قد أخذوا بنظام البنسيونات.. فكل فلاح كان له بيت، وكل بيت كان صاحبه يوفر من حجراته حجرة أوحجرتين يؤجرها لغريب من العمال الذين يعملون فى القرين.
وحين تفشى وباء الكوليرا انتشر بادئ الأمر بين عمال الجيش الغرباء، وكان الفلاحون من أصحاب البيوت يخافون التبليغ عن الإصابات خيفة أن يعزلوا هم الآخرون.. ويموت «الغريب» وليس هناك من يسأل عنه.. ويحمله أهل البيت إلى الجبل فيدفنونه ويعودون، فإذا سئلوا عنه فى الغد قالوا: لقد فر من القرين.. متى؟.. قبل الوباء».
يضيف: «حدث أن فاحت من الجبل روائح خبيثة وذهب بعض المستطلعين، وعادوا يقولون إن هناك جثثا.. ويظهر أن الذين قاموا بدفنها كانوا فى عجلة من أمرهم فدفنوها على بعد قريب من سطح الأرض.. وأعلن ُعمد القرية، وفى القرين أكثر من عمدة، أنهم يتبرعون لإقامة مقابر للغرباء وحدهم.. هؤلاء الذين لا أهل لهم ولا أحباب يبكون عليهم ويحزنون لأجلهم».
يكشف: «فى اليوم التالى بدأت إجراءات الحفر والبناء.. وخرج عدد كبير من أصحاب القرين يساهمون فى بناء المقابر للغرباء، وكان بين العاملين رجل اسمه رفاعى فقد أباه وزوجته وابنا له صغيرا..افترسهم جميعا ميكروب الكوليرا وبقى رفاعى على قيد الحياة.. وحفر بنفسه ثلاث مقابر لأبيه وزوجته وابنه.. ومع ذلك فإن هذا لم يمنعه من الاشتراك فى حفر المقابر للغرباء».
وأشار هيكل فى باقى التحقيق إلى بطولات الأطباء والممرضات فى المستشفى، وقصص حزينة عن زوجات جميلات من القرية فقدن أزواجهن الغرباء، وخطر الغرباء الهاربين خارج القرية، والدوائر المرسومة على أبواب البيوت الموبوءة، وأخيرا المدرس الذى حبس نفسه ليبحث فى الكتب عن سر تسمية قرية «القرين».