لم يكن تفكير الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس محض صدفة وإنما كان أمرًا يشغل باله وخاطرة تراود مخيلته منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952 رغبة منه في استرجاع الحقوق المصرية المسلوبة والسيادة الكاملة على قناة السويس المرفق الملاحي الأهم في الربط بين الشرق والغرب والتي لا يتجاوز نصيب مصر من أرباحها الفتات بنسبة لا تتعدى 3 % فقط.
ويحتفل المصريون في 26 يوليو، من كل عام بالذكرى الـ 64 لتأميم قناة السويس عام 1956، عندما أعلن الرئيس الأسبق، جمال عبد الناصر، بميدان المنشية فى محافظة الإسكندرية قراره بتأميم قناة السويس.
قد يتوقف التاريخ عند سرد الأحداث والمواقف ووضع علامات الاستفهام والتساؤلات ليبدأ المحللون والساسة على إثره في تحليل الأسباب والدوافع ووضع السيناريوهات المحتملة والنتائج المتوقعة التي تتجلى وتنكشف حقيقتها فيما بعد بمرور الزمن ليسطرها التاريخ كحقائق جديدة نستقي منها العبرة والدرس لما هو آت.
وظل قرار تأميم القناة مرهونًا باختيار الوقت الأمثل لإعلانه وجاء سحب الولايات المتحدة الأمريكية لعرض تمويل مشروع السد العالي كشرارة لانفجار الوضع والتفكير بشكل جدي في استعادة قناة السويس قبل انتهاء فترة مد الإمتياز باثنى عشر عامًا والتي كان مقررًا لها الانتهاء عام 1969.
في عام 1955 بدأت مباحثات تمويل السد العالي مع البنك الدولي والولات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تدخل مرحلة حاسمة، وكان من المقرر أن يتعهد البنك الدولي بتقديم 200 مليون دولار لتمويل السد على أن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بتقديم قرضًا بذات القيمة ليكون بذلك إحمالي المبلغ المقترض 400 مليون دولار من أصل 100 مليون دولار تمثل التكلفة الإجمالية لإنشاء السد العالي.
أثمرت المفاوضات مع الجانب الأمريكي والبريطاني على أن يتم تقسيم دفعات القرض على مرحلتين، في المرحلة الأولى تقدم أمريكا قرضًا بميلغ 54 مليون دولار فيما تقدم بريطانيا قرضًا قيمته 16 مليون دولار بخلاف قرض البنك الدولي وقيمته 200 مليون دولار، ويستكمل التمويل في المرحلة الثانية بتقديم أمريكا وبريطانيا المبلغ المتبقي وقيمته 130 مليون دولار.
ومع تقدم المفاوضات لتحويلها إلى نطاق الواقع الفعلي تأرجح الموقف الغربي نتيجة فرضه شروطًا مجحفة تحمل تدخلاً سافرًا غير مقبول في الشئون المالية المصرية وقد تكون نواة للتدخل السياسي بل والعسكري في مصر وهو ما انتبهت له الحكومة المصرية واتفقت حياله مع الاتحاد السوفيتي لدعمها في موقفها والضغط على القوى الغربية وهو ما أثمر عن إعلان يوجين بلاك مدير البنك الدولي في 18 فبراير 1956 موافقة البنك على تمويل المشروع.
ولم تمض أيامًا معدودات حتى تغير الموقف الغربي مرة أخرى من تمويل مشروع السد نتيجة للسياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية ورفضها القاطع للصلح مع إسرائيل علاوة على استكمال تسليح الجيش المصري بعقد صفقات سلاح مع الجانب السوفيتي، بالإضافة إلى رفض الرئيس عبد الناصر الانضمام لحلف بغداد وغيره من الأحلاف العسكرية والسياسية وتأسيسه لحركة عدم الانحياز، فضلاً عن مساندته لثورة الجزائر واعترافه بالصين الشعبية.
وفي 19 يونيو 1956 وخلال المباحثات التي جمعت الدكتور أحمد حسين، سفير مصر في واشنطن بوزير الخارجية الأمريكية أعلن لينكولن هوايت المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية سحب العرض الأمريكي بالمساهمة في تمويل السد العالي لأسباب أرجعها إلى سوء وضع مصر الاقتصادي والإدعاء بتأثير السد العالي على الحقوق المائية لدول شقيقة مثل السودان وأثيوبيا وأوغندا بما يعد تشكيكًا في النوايا المصرية وإفسادًا للعلاقات التاريخية بدول حوض النيل.
أما الموقف البريطاني فلم يختلف كثيرًا عن الموقف الأمريكي فسرعان ما شككت بريطانيا في قدرة الاقتصاد المصري على تمويل السد العالي وتسوية القروض المطلوبة وهى تغض الطرف عن تقارير البنك الدولي التي تؤكد قوة الاقتصاد المصري وارتفاع الدخل القومي من 748 مليون جنيه عام 1952 إلى 868 مليون جنيه عام 1954.
وهكذا شاءت الأقدار أن يكون قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس هو الرد الأمثل على محاولات القوى الغربية التحكم في مصير الدولة المصرية ووأد خططها الاستعمارية في مهدها.
"ديليسبس" كلمة السر في ملحمة تأميم القناة
لم يستغرق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الكثير من الوقت لاتخاذ قراره التاريخي بتأميم قناة السويس فكان ظهيرة يوم السبت الموافق 21 يولية 1965 ثالث أيام عيد الأضحى المبارك، في ذلك الوقت شاهدًا على هذه اللحظة التاريخية التي سطر التاريخ بعدها فصلاً من فصول العزة والكرامة المصرية.
وقال: تطلب اتخاذ القرار دراسة أبعاد الموقف الدولي حيال تأميم القناة واحتمالات التدخل العسكري علاوة على جمع البيانات والمعلومات الكاملة عن قناة السويس لاتخاذ التدابير اللازمة لأحكام السيطرة عليها دون خسائر.
ووقع اختيار الرئيس جمال عبد الناصر على المهندس محمود يونس، رئيس الهيئة المصرية العامة للبترول ليكون هو المسئول الأول عن عملية تأميم القناة وخول له كافة السلطات والصلاحيات وحرية اختيار رجاله والمعاونين له ووضع خطة التأميم خلال فترة وجيزة لا تتجاوز55 ساعة.
بدأ المهندس محمود يونس في اختيار رجال التأميم من دائرة الثقة المحيطة به من زملاء السلاح والكفاح أقرانه من ضباط سلاح المهندسين والعاملين المدنيين بهيئة البترول، وذلك بالتوازي مع وضع الإطار العام لخطة التأميم والتصديق عليها خلال اجتماعه مع الرئيس عبد الناصر بمجلس قيادة الثورة.
شرع يونس في التواصل مع رجال التأميم والاجتماع بهم لإبلاغهم بالمهام المطلوبة منهم دون إبداء معلومات واضحة عن طبيعة العملية ذاتها مع التأكيد على الالتزام بالسرية التامة وتنفيذ التعليمات بحذافيرها.
تحركت عناصر التأميم في مجموعات كل مجموعة تتكون من خمسة أو ستة أفراد على رأسهم قائد من العسكريين يحمل مجموعة من الخطابات التي تحمل كل منها اسم الجهة التي سيقصدها وبكل منها التعليمات المطلوب تنفيذها.
وفي معسكر الجلاء بالإسماعيلية كان رجال التأميم ممن تحركوا على دفعات في وجهات مختلفة على موعد للقاء مرة أخرى والاجتماع بالمهندس محمود يونس الذي فاجئهم بحقيقة المهمة وهى تأميم "قناة السويس".
ساد الصمت أركان المكان وسط حالة من الذهول والدهشة التي يغمرها فرحة عارمة لا تخلو من خوف وقلق وارتباك أصابت مجموعة التأميم التي أنصتت باهتمام إلى خطة تنفيذ عملية تأميم القناة.
"ديليسبس" هى كلمة السر وإشارة البدء سننتظر سماعها في خطاب الرئيس عبد الناصر بالمنشية بالإسكندرية مساء اليوم 26 يولية في ذكرى رحيل الملك فاروق هكذا جاءت كلمات المهندس محمود يونس.
تم تقسيم عناصر التأميم إلى ثلاث مجموعات تنفيذية أما المجموعة الأولى فستتولى أمر الإدارة الرئيسية للقناة بالإسماعيلية كان على رأسها المهندس محمود يونس وضمت كل من عزت عادل وعبد الحميد أبو بكر وسعيد الرفاعي وفؤاد الطودي ومشهورأحمد مشهور وإبراهيم زكي ونبيه يونس وحسن إسماعيل ومحمد حسان وأحمد فؤاد عيد الحميد وقاسم سلطان ومصطفى نيازي وعبدالله شديد.
فيما اتجهت المجموعة الثانية إلى محافظة بورسعيد وكان على رأسها توفيق الديب وضمت كل من شوقي خلاف ويوسف محمد يوسف وحسني مسعود وحسن جلال حمدي وعصام العسلي وعبد السلام بهلول وعبد الحميد بهجت.
واتجهت المجموعة الأخيرة إلى السويس وكان على رأسها الشافعي عبد الهادي وضمت محمد الزفتاوي وجلال ثابت وحسام هاشم وعمرعزت وعباس أبو العز وسيد خليفة ومحمد بهجت، وذلك بخلاف المجموعة التي تركت في القاهرة لتأميم مكتب الشركة في القاهرة ومحطات الإرشاد المنتشرة على طول القناة وعددها 11 محطة تولى تأميمها سلاح الإشارة بالقوات المسلحة.
وفي الساعة الثامنة والنصف مساءً كان الجميع على أهبة الاستعداد يستمعون بإنصات إلى خطاب الرئيس عبد الناصر وينتظرون كلمة السر "ديليسبس" للتحرك إلى مواقعهم وهى الكلمة التي تكررت في خطاب الرئيس الراحل سبع عشرة مرة خوفًا من أن تفلت كلمة السر من أسماع فريق عملية التأميم.
وهكذا وقبل الساعة العاشرة والربع مساءً كانت جميع المقار الرئيسية للهيئة تحت سيطرة فريق التـأميم الذي أعطى "التمام" إلى المهندس محمود يونس عبر هواتف الشركة الداخلية إيذانًا بنجاح عملية تأميم القناة.
رجال ملحمة التأميم .. أبطال من ذهب في ذاكرة الأمة
ساعات حاسمة سبقت اختيار رجال تأميم قناة السويس ممن توافق عليهم الرأي وجمعهم القدر في مهمة محفوفة بالمخاطر فكانوا على قدر المسئولية التي ألقيت على عاتقهم وتحملوا بيقين ثابت ووطنية نادرة مخاطره غير مأمونة العواقب حاملين أرواحهم على كفوفهم ملتزمين بالسرية التامة وتنفيذ المهام المطلوبة وفقًا للخطة الموضوعة بإحكام.
ومابين أسماء مرشحة وأخرى مستبعدة توافق المهندس محمود يونس، رئيس الهيئة المصرية العامة للبترول أنذاك ورئيس هيئة قناة السويس الأسبق مع مساعديه المهندس عزت عادل، السكرتير المساعد للهيئة المصرية العامة للبترول، رئيس الهيئة الأسبق، والدكتور عبد الحميد أبو بكر، عضو مجلس إدارة الهيئة الأسبق على اختيار مجموعة تأميم القناة والتي تنوعت عناصرها ما بين مدنيين عاملين في هيئة البترول ووزارة التجارة وضباط من الداخلية وآخرين من سلاح المهندسين بالقوات المسلحة في مهمة قومية تضافرت فيها الجهود واتحدت فيها النوايا والكفاءات لإعادة الحق لأصحابه واستعادة المرفق الملاحي الأهم في العالم لأحضان السيادة المصرية.
وهكذا قدر لهذه الأسماء أن تشارك في هذا العمل الجلل بعد أن تم إرسال مسودة الأسماء إلى الصاغ عباس رضوان، مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة ومن ثم التصديق عليها وتدبير أمر الاجتماع بهم فكان على ضباط القوات المسلحة التواجد الساعة الثانية بعد الظهر بمكتب القائد العام للقوات المسلحة بكوبري القبة أما الاجتماع بالمدنيين فتم في الساعة الثانية عشر ظهرًا بمكتب المهندس محمود يونس بهيئة البترول.
فيديو خطاب التأميم