نواصل مع المثقف الكبير سلامة موسى (1887- 1958) قراءة مشروعه الفكرى، خاصة أنه كان صاحب تأثير كبير على الأجيال التى جاءت بعده، ونتوقف اليوم مع كتابه "افتحوا لها الباب".
والكتاب يحوى عددا من المقالات منها "لماذا تزوج" يقول فيه:
كان أصدقاؤه وأقاربه يتعجبون من كَلَفه بزوجته، وصحيح أنها كانت رشيقة مهذبة الكلمة والإيماءة، وكان بيتها مرتبًا يجد فيه الزائر رونقًا للأثاث ورقة فى الهواء، على الرغم من الحر خارج البيت، كما يجد نظافة عامة، ولكن ليست كتلك النظافة المعقمة التى تجعلنا نذكر الصيدليات.
كان فى بيتها فن، وكان زوجها يعود إليه، إلى بيته، من مكتبه، وهو فى لهفة؛ كأنه قد غاب عنه عامًا، فإذا دخله لا يتركه إلا فى صباح اليوم التالى، بل إنه كان يتأفَّف من الزائرين له؛ كأنهم كانوا يشغلونه عن حبه المسرف لزوجته "بهجة".
وكانت بهجة تعرف فيه هذا الحب، وتضحك منه فى فرح، وكانت قد تعودت منه نزوات، لم يكن فريد، زوجها، يخجل من إبدائها حتى أمام الغرباء من الزائرين؛ فقد كان يهبُّ منتفضًا من كرسيه فيقصد إليها ويغمر وجهها بوابل من القبلات، بين ضحك الزائرين وتعجُّبهم.
وكنت كثيرًا ما أداعبهما وأقول إن هذا الكلف مفسد لهما، وأنه يجب أن يخرجا من هذا النشاط المحدود إلى نشاط أوسع؛ أى يجب أن يخرج فريد ثلاثة أيام على الأقل كل أسبوع كى يلتقى بأصدقائه فى النادى أو المقهى، ويتصل عن طريقهم بالمجتمع، كما يجب على بهجة أن تزور صديقاتها وتتعرف إلى الأخبار والآراء.
ولكن لا، كان فريد يجد فى بهجة كل ما يتمنى فى دنياه، وكانت هى كذلك لا يتجاوز نظرها وإحساسها فريد.
وكان الناس، من أصدقاء وجيران، يقولون إن فورة هذا الحب ستخمد بعد السنة الأولى، لكن ها هما فى السنة الخامسة من زواجهما وهما على كَلَفهما.
لا يمكن أن يكون فى الدنيا أسعد منهما.
إنهما شاذان أو فذان؛ كلاهما يحب الحب، وقد وجد مصدر هذا الحب فى شريكه.
ولم تكن بهجة قد حملت، وكان شوقها إلى أن تحمل وتلد يشغل بالها بعض الوقت، ولكن لم يكن همًّا ملازمًا؛ لأن حبها لزوجها وما تجد منه من غرام، كان ينسيها هذا الشوق.
وأخيرًا حملت … وازداد تعلق فريد بها.
ولما حان ميعاد الولادة قصدت إلى المستشفى؛ لأن الطبيب لم يطمئن إلى ولادتها فى البيت، وهناك بقيت أكثر من أسبوعين وهى تحت إشراف الأطباء، وعرف فريد منهم أن الولادة لن تكون طبيعية؛ لأن الجنين ليس فى الرحم؛ أى إن الحمل «خارج الرحم»، ولم يفهم فريد كثيرًا فى هذا الموضوع، ولذلك كان مطمئنًّا.
وذات يوم، عقب عودته من مكتبه فى الساعة الثانية بعد الظهر، قيل له فى المستشفى إنه قد أجريت لزوجته عملية، وهى العملية القيصرية لشق البطن وإخراج الجنين، وأن الجنين مات، ولكن صحة الأم حسنة.
وكاد فريد يجنُّ من هذه الأخبار، وقصد إلى زوجته فوجد أنها لا تزال مخدرة، وهى ملففة بعصابات من القماش حول بطنها.
وحصل فريد على إجازة خمسة عشر يومًا كى يلزم سرير زوجته، وكان لا يبرح غرفتها لا فى النهار ولا فى الليل.
وكانت كلمات الأطباء المعالجين مشجعة مبشرة، لكن واحدًا منهم أبدى له تخوفه من أن الجرح قد ظهر فيه فساد، وأنه يخشى عاقبته.
ثم فُتح بطنها مرة أخرى وقُطعت منه الأجزاء الفاسدة، وتألمت بهجة كثيرًا، لكنها كانت تتجلَّد أمام فريد.
وذات مساء، وهو نائم إلى جنب سريرها، استيقظ على صراخها، فنهض وحاول أن يوقظها، لكنها كانت تنظر إليه كأنها لا تعرفه، وهى فى رعب عظيم، تهذى عن الوحش الذى يقف عند الباب ويريد أن يفترسها.
وبعد لحظات سكنت، وكان سكون الموت.
وقال له الأطباء إن صديد الجرح انتشر فى الجسم، وأن هذا هو علة هذيانها ورعبها قبل وفاتها.
ودُفنت بهجة، وكان فريد يسير خلف نعشها وهو ذاهل لا يصدق أنها ماتت، وكان إحساسه غريبًا؛ فقد كان يفاجئ نفسه وهو يقول: غير معقول، غير معقول أنها ماتت!
وغمره إحساس الغيظ، وكأن هذا الموت الذى خطف بهجة منه قد دبَّره له خصمٌ يريد إشقاءه، فلم يكن يبكي، وغصَّ حلقه بالغيظ حتى صار ينفث منه الدم.
ولكن بعد أيام هدأ الغيظ، وشرع يؤمن بموت زوجته، ويبكيها على المخدة صباح كل يوم.
وكنا نحن، جيرانه وأصدقاؤه، نقول: إن هذه الكارثة التى نزلت به تعلو على كل ما يستطيع أن يتحمله إنسان؛ فإنه سيبقى سائر عمره وهو أرمل لن يتزوج، وكنا نذكر كَلَفه بزوجته ونقول: كيف يمكن إنسان أن يعيش بعد أن زالت منه هذه السعادة؟!
كنا نأسف ونحزن، ونحس أن حزنه قد فاض من صدره وغمرنا نحن جميعًا، ولم يكن منا أحد يراه وهو قادم إلى منزله يتعثَّر فى بطء كأنه فى جنازة، إلا ويتنهد ويذكر نشاطه السابق حين كان يعدو إلى بيته كى يلتقى ببهجة ويقبِّلها.
ما أقسى هذه الدنيا!