توجه مصطفى النحاس باشا إلى منزل عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، دون موعد مسبق، فوجد عنده عددا من الشباب، وفقا لزوج ابنته الدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر أثناء حرب أكتوبر 1973، فى كتابه «ما بعد الأيام»، مضيفا: «سلم النحاس باشا عليه وخرج مع طه حسين إلى الحديقة، وفاجأه بأن طلب منه أن يتولى منصب وزير المعارف فى وزارته التى يجرى تأليفها».
كان «النحاس باشا» مكلفا من الملك فاروق يوم 10 يناير 1950 بتشكيل الحكومة، بعد فوز حزب الوفد بالانتخابات البرلمانية، وحسب الجزء الثانى من مذكرات النحاس، تحقيق ودراسة الكاتب أحمد عز الدين، فإن تفكيره لم يتجه فى البداية إلى طه حسين، وإنما اقترح على «نجيب باشا الهلالى» تولى وزارة الخارجية فاعتذر، فرشحه لوزارة المعارف فاعتذر كذلك، وتعلل بأن لديه فى مكتبه قضايا كبيرة وعويصة، فسأله النحاس: «من يتولى وزارة المعارف وأنت الذى أدرتها فى الوزارة السابقة بمهارة، وأخرجت تقرير التعليم الذى كان موضع إعجاب رجال التربية جميعا، قال: أرشح الدكتور طه حسين، فقلت يجوز أن يتم الاعتراض عليه لعاهته، فقال: «لا.. يمكن تخطيها».
يذكر «الزيات» ما دار بين «النحاس» و«طه حسين»، قائلا: طه حسين يشكره، ولكنه يرجوه معاودة التفكير لأسباب: الأول أنه ليس عضوا فى الوفد، وأعضاء الوفد الذين شاركوا رئيسهم جهاده أحق بالاشتراك معه فى الحكم، والثانى أن السراى غاضبة عليه منذ زمن بعيد، ولا ينتظر أن توافق على تعيينه، والثالث أنه ملتزم أمام نفسه وأمام الشباب ببرنامج للتعليم سبق أن شرحه عام 1937 فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى كان يعده فى الأصل ليقدمه تقريرا إلى النحاس باشا نفسه، وهو لا يعرف رأى وزارة الوفد عندما تتولى الحكم فى تطبيق هذا البرنامج الذى يؤكد ضرورة إعلان مجانية التعليم الابتدائى والثانوى، وهناك سبب رابع لا يحتاج إلى تبيين «يقصد عاهته».
فند النحاس هذه الأسباب طبقا لتأكيد «الزيات»، وبدأ من «الرابع»، قائلا: «السبب الرابع كلام فارغ، إن سمح الدكتور بهذا التعبير، فقد قام طه حسين بواجباته فى إدارة كلية الآداب وفى مراقبة الثقافة، وأدى عمله مستشارا لوزارة المعارف ومديرا لجامعة الإسكندرية بكفاءة ودقة لا تُعرف عن المبصرين، والسبب الثالث يزكيه وليس العكس، فإن الوزارة تتطلع إلى إصلاح التعليم وتيسره للشعب، والسبب الثانى الرد عليه بسيط: إن السراى مخيرة بين النحاس باشا ومعه طه حسين، وبين رفض تعيين طه وزيرا للمعارف ورفض تعيين النحاس رئيسا لمجلس الوزراء، أما السبب الأول فإن النحاس يقول إن الذى يهمنى هو مصلحة الأمة وليس مصلحة الحزب ولا مصلحة الأفراد، وأعضاء الوفد سوف يسرهم جميعا قبولك مشاركتنا فى تحمل أعباء الوزارة».
يرد طه حسين: «فى اعتقادى أن التعليم العام يجب أن يكون مجانيا كى لا يحرم واحد من أبناء الوطن، كى تتاح لجميع المواطنين فرصة متكافئة».. يرد النحاس باشا: «عارف، وأنت لا بد متذكر أننا التقينا مرة فى قطار من قطارات الصعيد وتحدثنا فى هذا الموضوع، ويقول طه: وإذا أصبحت أنا وزيرا للمعارف فإن رفعتكم ستحبون قطعا إعلان مجانية التعليم فى أول خطاب للعرش تلقونه أمام البرلمان، ويسأل النحاس باشا: هذا شرط؟.. يرد طه حسين: «لا، معاذ الله ليس شرطا ولكنه توقع، فيرد النحاس وهو يتأهب للانصراف: يعنى شرط، على كل حال شرط مقبول، اتفقنا، مبروك».
أبلغ «طه حسين» زوجته «سوزان».. تؤكد فى مذكراتها «معك» ترجمة «بدر الدين عردوكى»، مراجعة، محمود أمين العالم: «لم نتوقع أن يصبح طه وزيرا فى يوم من الأيام، فقد كنا نرى دوما أن ثمة مواقع حاسمة تقوم عقبة فى وجه ذلك بسبب عاهته وأفكاره المتحررة الجريئة وطبعه المستقل والحاسم، فبوصفه مستشارا فنيا كان يكتب لرئيس المجلس، حيث هوجم.. ورد: «نعم إننى أدافع عن سياسة الوزير، وسوف ألازمه فى ذلك من أجل الدفاع عن الوزارة، ذلك لأننى أدافع عن سياستها التعليمية التى هى سياستى، ولن يستطيع أى إنسان أن يحول بينى وبين ذلك سواء كنت موظفا أو لم أكن».
تؤكد «سوزان»: «كان دون أى شك سعيدا لاستطاعته أن يحقق عددا من مشاريعه، فقد اجتاز بنضال عنيف الخطوة الحاسمة من أجل تحقيق مجانية التعليم التى كان قد طالب بها منذ عام 1942، وكان تقرر قبول المبدأ غير أنه لم يُطبق، وكان الناس فى الخارج على وعى كامل بما كان يعنيه هذا التحول الهائل».