ننشر مقالة للكاتب والشاعر شعبان يوسف حول المفكر والعالم المصرى "عبد العظيم أنيس" الرجل الذى ترك أثرا كبيرا في كل شيء شارك فيه.
(يجعل صباحكم نادى
ياساكنين الوادى..
دانا بنادى..
خمس سنوات!"
هذه ترنيمة ليست لصلاح جاهين، أو لفؤاد حداد، أو لشاعر عامية محترف، بل هى للدكتور وعالم الرياضيات والشاعر والناقد والمفكر السياسى والمناضل عبد العظيم أنيس، فاضت به المشاعر بعد رحلة اعتقال من يناير 1959، حتى 4 أبريل عام 1964، خمس سنوات عجاف قضاها فى عدة معتقلات مختلفة، بدأت - كما يروى - بمعتقل القلعة ثم معتقل الواحات الخارجة، ثم عاد إلى سجن مصر، لكى يتأهب للمثول لمحاكمته أمام مجلس عسكرى فى أكتوبر عام 1959، ثم يعود مرة أخرى إلى سجن مصر، لينتقل مرة أخرى إلى معتقل أوردى أبى زعبل فى 7 نوفمبر.
عبد العظيم أنيس
ويحكى عبد العظيم أنيس تلك المعاناة التى عاشها مع رفاقه طوال السنوات الخمس فى تلك المعتقلات فى كتابه "رسائل الحب والثورة"، وبفضل مقاومة زملائه، استطاعوا أن يجعلوا من تلك الفترة مدرسة للشعر والمقاومة والإبداع، ولم يكن أنيس ورفاقه من المناضلين والكتّاب والشعراء والصحفيين والمناضلين قد ارتكبوا جرما سياسيا جسيما، بل كانوا يطرحون أفكارهم بوضوح وبرفق أيضا، إذ أن عبد العظيم الذى ترك إنجلترا فى أوج مجده العلمى هناك، ليكون فى بلاده، ويضع علمه وخبرته وثقافته ومعرفته فى خدمتها، عندما شنّت إنجلترا وفرنسا وإسرائيل هجوما شرسا على مصر عام 1956، وعندما عاد إلى بلاده، لم يجد له مكانا فى الجامعة، وذلك بسبب مبادئه، فالتحق صحفيا فى جريدة المساء التى كان يرأس تحريرها الراحل خالد محيى الدين.
ويساهم بشكل بارز فى شتى الأحداث السياسية بالدرس والتحليل والنقد، وكان أول ما نشره فى 10 ديسمبر 1956 تحت عنوان "هل ينتهى الخلاف بين بريطانيا وأمريكا؟!"، وينوّه عن الانقسام الذى حدث بين قيادات حزب المحافظين، للدرجة التى هددت وحدته، وكان أنيس يكتب ويحلل من منطلقات إدراكه العميقة بالتحولات السياسية فى العالم، حيث أن ثقافته الواسعة والعميقة، وتجربته الحياتية فى إنجلترا، ساعدته على معرفة التفاصيل بشكل لا يتوفر إلا لسواه، فهو الشاعر والناقد والمناضل السياسى، والأستاذ البارز فى علم الرياضيات.
فى النادى المصرى بلندن عام 1951 أثناء بعثته لدراسة الدكتوراة
ورغم أن كافة انشغالاته السياسية والفكرية والنقدية والعلمية كانت تستنزف وقته وجهده، إلا أنه كان قريبا من الشعر، ولذا كان المطلع الذى بدأنا به هذه السطور، الشعر يأتى فى الوقت الذى لا توجد أى حلول أخرى، فيصدح:
(الورد كان شوك من عرق النبى فتّح
وأنا فتحت من ريحة عرق حبيبى
شميته فى نسمة النيل البليلة
وخضرة الغيط اللى مترامى قدامى
على الآخر..)
ومن يتتبع مسيرة الدكتور عبد العظيم أنيس سيعرف أن كتاب "فى الثقافة المصرية" الذى صدر له عام 1955 فى بيرت بالاشتراك مع رفيقه محمود أمين العالم، وقدّم له الناقد والمفكر حسين مروة، كان بابا واسعا ليدخل منه العالم وأنيس قلب الحياة الثقافية والأدبية والفكرية، إذ أن هذا الكتاب يعد من (الكتب الظاهرة) حيث إنهما "العالم وأنيس" تصديا بشكل واضح وحاسم للدكتور طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، ولم يستطع هؤلاء الكبار أن يتجاهلوا هذا الكتاب قبل أن يكون كتابا، وكان مقالات ودراسات نشرت منجمة فى الصحف والمجلات، وكان نصيب أنيس فى الكتاب الإنتاج النقدى والروائى، وتولى محمود أمين العالم أمر الشعر، ورغم ذلك سنجد أن عبدالعظيم أنيس يكتب مقالات فى الشعر ذات وعى وذوق عاليين، وقد قدّم عددا من الدواوين لشعراء منهم الشاعر الفلسطينى معين توفيق بسيسو، والشاعر العراقى عبد الوهاب البياتى فى ديوانه "أباريق مهشمة"، والذى صدر فى بيروت عام 1955، يقول أنيس فى تقديمه لديوان البياتى:
".. لم أعرف شاعرا من الشعراء الجدد بالبلاد العربية حظى بمثل هذا الاهتمام الذى حظى به عبد الوهاب، ولم أعرف شاعرا اختلف النقاد فى تقويم قصائده كما اختلفوا بالنسبة إلى عبد الوهاب.. والحقيقة أنى أشعر بعد أن قرأت (أباريق مهشمة) مرتين، أن ما كتب عنه وقرأته، قد جانب الصواب فى كثير من الأحيان، يستوى فى ذلك المدح أو الذم.."، ويستطرد أنيس فى عرض أفكاره التى جاءت شارحة وعميقة وتثير الجدل فى الوقت ذاته.
الرجل الذى سرقه الإنجليز
رسالة إحسان، ورد عبد العظيم:
من المعروف أن عبد العظيم أنيس قد وقّع على مذكرة مع عدد كبير من أساتذة الجامعة أثناء أزمة مارس 1954، منتصرا مع زملائه إلى خالد محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة، والذى كان يطالب بالديمقراطية، وتجنيب البلاد أى حركات عنف مجهولة، ومن الممكن أن تعمل على تدمير كل شىء، بما فى ذلك الثورة نفسها وقياداتها، وبالطبع كافة القوى السياسية الأخرى، وكان هذا التيار العقلانى الذى ينتمى إليه أنيس، يساند الدولة بكل قوته فى مواجهة القوى الرجعية التى كانت تتلمظ على الفتك بالثورة الجديدة، وليست الرجعية هنا جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل كذلك كبار الملاك من حزب الوفد، والإقطاعيون الذين أضيروا من ثورة يوليو.
فى الثقافة المصرية
ولأن تيار خالد محيى الدين فى السلطة كان ضعيفا، وانتصر الجناح الآخر، تم استبعاد كافة المؤيدين لتيار الديمقراطية، ووجد نفسه مفصولا مع ما يزيد عن خمسين أستاذا جامعيا، وفى تلك الفترة سعت جهات كثيرة للتعاقد مع ذلك الأستاذ الجامعى المرموق، وعالم الرياضيات الفريد، وبالفعل سافر الدكتور أنيس إلى إنجلترا بعد تعريجه على رفاق له فى بيروت، ليستقر أمره فى جامعة لندن بكلية تشيلسى للعلوم والتكنولوجيا، قبل أن يستقيل منها لمناصرة بلاده.
وكان الكاتب الصحفى والروائى إحسان عبد القدوس صديقا لعبد العظيم أنيس، ومن أكثر المدركين للقيمة العليا التى يمثلها أنيس، لذلك كتب مقالا فى مجلة روز اليوسف، التى كان يرأس تحريرها، وكان عنوان المقال "الرجل الذى سرقه الإنجليز"، وذلك بتاريخ 9 يوليو 1956، واستهل إحسان مقاله بـ: " إنكم تعرفون الدكتور عبد العظيم أنيس كأديب يكتب فى روز اليوسف،.. ولكنكم قد لا تعرفون أنه دكتور فى علم الرياضة البحتة، وأنه المصرى الوحيد الذى يحمل دكتوراه فى هذا العلم، وقد كان أستاذا فى الجامعة المصرية ثم فصل منها، لم يفصل فى التطهير، ولم تلصق به أى تهمة، ولكنه فصل فى ظروف سياسية اقتضتها الثورة، ظروف تعرضنا جميعا لها، وتحملناها صابرين دون أن نفقد إيماننا بالثورة".
ويسترسل إحسان فى رسالته المؤثرة، وسرد كيف كان متأثرا بذلك الاستبعاد المتعسف، وكيف أن بلادنا تحتاج لمثل هذه العبقرية التى ذهبت بعيدا، فيصرخ إحسان فى رسالة لعبد العظيم قائلا له: "..إنى أريدك لبلدى..وأريد علمك لأبنائى".
وعلى الفور رد عليه عبد العظيم برسالة فى 25 يونيو 1956 قائلا:
(أخى العزيز إحسان..
رسالتك وصلتنى اليوم فقط.. إن رسالتك أصابت من قلبى الصميم .. وأنت لا تدرى أنك بهذه الرسالة قد نكأت جرحا كان ينزف منذ زمن طويل.. أتقول لى يجب أن أعود إلى مصر؟ أترسل لى تذكرنى بمصر والمصريين أهل وأحباب خليتهم منذ زمان بعيد وغاب أملى فى رؤيتهم من جديد ؟.. أنت واهم يا إحسان .. فأنت لا تدرى إنى أعيش على البعد فى قلب مصر.. أنت لا تدرى أن أخوتى وأهلى وكل من أحبهم فى قلبى وخاطرى على الدوام، أنت لا تدرى أن كل معالم القاهرة وآثارها وأبناءها هى ما يسيطر على خيالى وأنا فى قلب لندن..".
بورتريه لـ عبد العظيم أنيس رسمه الفنان جميل شفيق
ويسترسل أنيس فى رسالة بليغة، تضاف إلى الرسائل الأدبية التى تأتى تحت عنوان "مديح الأوطان"، ولم يمكث عبد العظيم كثيرا فى إنجلترا، فقد تسارعت الأحداث، وكان يرسل مقالاته الأدبية والسياسية إلى مجلة روز اليوسف بانتظام، حتى حدثت الصدامات السياسية العنيفة، فقدم عبد العظيم أنيس استقالته، وعاد إلى مصر عبر رحلة شاقة، ووضع نفسه وخبرته وثقافته تحت أمر بلاده، منتصرا للسلطة الوطنية، وحدث الصدام الذى أدى به وبرفاقه إلى المعتقلات، وخرج فى 4 أبريل عام 1964، وبدأ حياة جديدة، سنتناولها لاحقا إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة