عادت الكاتبة الأديبة الآنسة «مى زيادة» إلى القاهرة بعد فترة أليمة فى مستشفيات الأمراض العصبية فى لبنان، وقررت مقاطعة أعلام الفكر والأدب الذين كانت تعرفهم، وأنشأت علاقات مع غيرهم ممن لم يصدقوا ما قيل عن مرضها العقلى، ومن بين هؤلاء الأصدقاء الجدد مصطفى مرعى بك «1902 - 1987»، المحامى، الذى أصبح عضوا فى مجلس الشيوخ، والسيدة قرينته، وفقا للكاتب «وديع فلسطين» فى الجزء الثانى من كتابه «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره».
ولدت «مى» فى مدينة الناصرة الفلسطينية عام 1886 لأب لبنانى مارونى وأم فلسطينية، وجاءت إلى مصر عام 1908، واشتهرت بصالونها الأدبى فى القاهرة.. يؤكد «فلسطين» أنه بدأ منذ أغسطس 1914، واستمر نحو ربع قرن بانتظام دقيق، لا تخالفه إلا فى رحلاتها الصيفية إلى أوروبا، ومن أشهر رواده، الدكتور طه حسين، وأحمد لطفى السيد، وعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، ومصطفى صادق الرافعى، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والشاعر ولى الدين يكن، وأمير الشعراء أحمد شوقى، والشاعر حافظ إبراهيم، والدكتور منصور فهمى، والدكتور محمد حسين هيكل باشا، وأحمد حسن الزيات، وآخرين.
ينقل «فلسطين» عن الشيخ مصطفى عبدالرازق «شيخ الأزهر، ديسمبر 1945 إلى ديسمبر 1946» قوله: «كنت من المترددين على ناديها الأدبى، وكان المجتمعون يستطيعون أن يقدروا جميع مواهبها الأدبية والخلقية، إذ يتم الحديث فى منتداها فى جو يفيض أدبا وفنا وفكاهة وجدا، ويفيض صفوا لا يكدره مكدر، وكان مجلسها لا لغو فيه ولا تأثيم، أما عن لغة الحديث فكانت فى الغالب باللغة العربية، وكانت بالعربية الفصحى».
واصلت «مى» تألقها فى القاهرة، فألفت الكتب وألقت المحاضرات، وكتبت فى الصحف، كجريدة الأهرام من 1931 إلى 1932، حتى بدأت أحوالها النفسية فى الضعف، يذكر الدكتور منصور فهمى فى الأعمال الكاملة له التى حققها وقدمها «حسن خضر»، أنها كتبت لابن عمها الدكتور جوزيف زيادة فى لبنان سنة 1935 قائلة: «إنى أتعذب شديد العذاب يا جوزيف، ولا أدرى السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغى خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فىّ وحولى».
سافرت إلى بيروت عام 1936، ودخلت مستشفيات الأمراض العصبية، ثم عادت إلى القاهرة عام 1939، واعتزلت الناس، لكنها فى 20 يناير، مثل هذا اليوم، 1941، ألقت محاضرة فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ويكشف «فلسطين» أنه كان وقتها طالبا بمعهد الصحافة بالجامعة الأمريكية، وكان رئيسا لتحرير مجلة الطلبة الأسبوعية واسمها «القافلة»، وطلب منه مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة أن يشارك فى تنظيم استقبال الجمهور المتوقع حضوره، لكنه اعتذر لظرف امتحانه فى اليوم التالى.. يؤكد «فلسطين» أنه كلف زميلا له بالحضور ليكتب عنها خبرا فى «القافلة»، ويذكر نص الخبر: «عش فى خطر للآنسة مى: الدنيا كلها خطر، وتاريخها حافل بالأخطار لذا يجب على المرء ألا يخشى الخطر فى هذه الحياة».
تضيف «القافلة»: «كانت المحاضرة فى الساعة الخامسة والنصف يوم الاثنين 20 يناير 1941 بالقاعة الشرقية، وحضر هذه المحاضرة عدد غفير أعجب بسحر الآنسة مى فى تسلطها على مسامعهم، وتملك شعورهم بطريقتها المدهشة فى الإلقاء، كانت تضرب الأمثال من صميم الحياة على مقاومة الخطر وتدرجه حتى أصبح فى حضارتنا الراهنة شيئا عاديا، قائلة: إننا لا نتصور مقدار ما عاناه الإنسان الأول من البسالة فى الإقدام على ركوب الحمار لأول مرة، ولكنه الآن يركب القطار والسيارة والباخرة فالطائرة دون أن يفكر فى أى خطر».
أما السر الذى يكشفه «فلسطين»، يقول عنه: إنه عندما استقوى أقرباء مى عليها، واستضعفوها واستدرجوها إلى لبنان وأودعوها مستشفى العصفورية للأمراض العصبية، قاموا بتوقيع حجر على ممتلكاتها، ولم تكن تزيد على أمتعتها المنزلية الشخصية، وعلى أموالها، ولم تكن تزيد على بضعة آلاف من الجنيهات، وظل الحجر قائما لا تستطيع معه التصرف فى مالها وأشيائها عند عودتها إلى مصر.
يؤكد «فلسطين»، أن مصطفى مرعى بك، رغب فى إنقاذها، فجعلها توقع على أوراق دون أن تدرى بأنها توكيل رسمى لإقامة دعوى لرفع الحجر، وخشى مرعى بك أن يطول أمر القضية، فعرض على مدير قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية فكرة أن تقوم «مى» بإلقاء محاضرة ضمن برنامج المحاضرات العامة التى كان القسم ينظمها على مدار السنة، فرحب بالفكرة، ورحبت «مى» بتلبية الدعوة، وأشار مرعى إلى مسئول الخدمة العامة بأن يدعو القاضى الذى ينظر «رفع الحجر» فلبى الدعوة، وكان أشد الحاضرين تتبعا للمحاضرة، وعند انصرافه علق: «أهذه مجنونة؟ إنها أعقل منى».
وفى أول جلسة تالية قضى بإلغاء الحجر، لكنها لم تهنأ به طويلا، لأنها ماتت يوم 18 أكتوبر 1941، وعمرها 55 عاما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة