"من لا يُغير مكانه لن يعرف في حياته، مهما طالت، إلا القليل الذي يمكن أن يدهشه، ولن تكون حياته تلك مصدر دهشة لأحد إلا إذا قام بانقلاب جنوني، كأن يرتكب جريمة شنعاء أو يكون ضحية لجريمة، ومن الصعب على من لا يسافر أن يُغير الصورة المرسومة له سلفاً. لذلك كان لا بد لكل نبي من هجرة"، على هذا الدرب يسير الروائى والكاتب الصحفى عزت القمحاوى في كتابه الأخير "غرفة المسافرين"، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 2020، واضعاً فلسفته الخاصة عن السفر ومفهومه الخاص عن التنقل عبر عوالم مختلفة.
حين وقع الكتاب أمامي للمرة الأولى، تصورت أننى أمام كتاب عن أدب الرحلات، حكاوٍ وأسرار يحكيها صاحب "بيت الديب" عن المدن التى زارها، وذكرياته وانطباعاته عن مدن أحبها وأخرى أثقلت قلبه وذاكرته، وأراد أن يكتب عنها للتخلص من أعباء رحلتها الثقيلة، لكن كتاب القمحاوى ابتعد كثيراً عن ذلك، فالسفر لا يشترط أن تذهب إلى مدينة تحبها فقط، السبل متعددة والشغف واحد، من الممكن أن يأخذك كتاب أو رواية إلى عوالم أخرى لم تسمع عنها. وفي كتاب "غرفة المسافرين" مدن وعوالم كثيرة يكشفها صاحبها.
الكتاب إذن رحلة سردية كبيرة - لا تقل إبداعاً عن الإبداعات الأخرى التي قدمها صاحبها من قبل - فبين الروايات العالمية والعربية، وفي العديد من المدن الغربية والشرقية، تتعرف على ثقافة كل مدينة وكأنك هناك، ولأن "ألف ليلة وليلة" كانت المنطلق للكثير من العوالم السردية، اتخذ منها المؤلف "محطة" للانطلاق فى رحلته.
والكتاب غزير في تناوله للجوانب الإنسانية والنفسية للمسافرين، ويحمل معان ربما لا تكتمل إلا حين نسافر: "الشغف، والغموض، والكمال، الفرار، المغامرة" كلها أشياء تكتمل بالسفر، ولا يسد احتياج النفس البشرية إليها سوى الرحلة.
العالم عملة ذات أوجه متعددة، الخير والشر والجميل والقبيح، السعادة والحزن، يظهر ذلك فى المدن التي نسافر إليها، هناك مدن سعيدة تطبع على قلبك منذ تطأ قدمك أرضها، وأخرى حزينة ترسم أجواءها الكئيبة على قلبك منذ أن تصل صالة الوصول، وفى المطار تتكون لدى المسافر الانطباعات، وتتجسد لديه مشاعر وأحاسيس ربما لن تتركه إلى أن يغادر، يقول الكاتب في (ص 65): "لا يمكن لخضرة المهبط، ولا فخامة الصالات أو اتساعها أو حداثتها أن تضلل المسافر، لأن رائحة الحرية ورائحة الاستبداد في صالة الوصول لا تخطئها أنف".
وما ذهب إليه القمحاوى صحيح تمام، فخلال رحلتى إلى إحدى المدن العربية، شعرت بالانقباض منذ أن وطأت قدماى أرض المطار، الحزن كان عنوان الرحلة والصمت كان الرفيق الأكثر حضوراً، هناك السكون يظهر فى كل شىء فى الشوارع وفى وسائل المواصلات، فى حركة الناس، لفت نظرى هناك أن الشوارع لا توجد بها كائنات أخرى سوى البشر، لا وجود للحيوانات الضالة، وعندما سألت قال لى أحد سكان المدينة، إنهم يحبسونهم فى معسكر حتى لا يضايقوا أهلها، فتأكدت أنها مدينة بلا روح، وبلا حياة.
القمحاوى يتعمق فى النفس البشرية للمسافرين، ويحلل علاقاته بمتعلقاته وأشيائه الخاصة فى السفر، فكان لحقيبة السفر حضور أيضا، وهي معبرة بصدق عن مشاعر المسافر نحو حقيبته، يقول المؤلف: "الحقيبة فى رحلة الذهاب ذات أخرى تسافر معنا، لكنها فى رحلة العودة شىء علينا أن ننقله كيفما اتفق"، والحقيقة أن المدن سواء كانت حزينة أو سعيدة لها تأثير كبير في ذلك، في رحلتي سالفة الذكر كانت الحقيبة رفيقتى شعرت نحوها بامتنان، وشعرت أن بيننا حكايات، في الرجوع كنت "أكبس في حقيبة العودة الملابس بلا شفقة" كنت متعجلاً لنهاية هذه الرحلة، أريد أن أتخلص منها، وكأننى أفك عن نفسى قيود الحرية.
كتاب "غرفة المسافرين"، رحلة شيقة إلى عوالم كثيرة، وحكايات ممتعة، جعلنا الكاتب جزءاً منها، وترك أثره عن السفر، والأكثر بلغته وسرده الرائع، فغرفة مسافرى القمحاوى، نص بليغ، ورؤية ضافية من قارئ نهم وكبير قبل كونه كاتبًا كبيرًا.