مواجهات ممتدة منذ نهاية عام 2015 ، جمعت إدارة فيس بوك مع القائمين على صناعة الصحافة العالمية فى محاولة للوصول إلى صيغة عادلة لاقتسام عوائد الإعلانات الرقمية التي تراها اتحادات الناشرين حق يسلبه جوجل وفيس بوك، لنشره محتوى لا يشارك فى صناعته.
ما مدى سلامة الممارسات المالية لعمالقة التكنولوجيا؟
وبعد الساعات الست التي انهارت فيها أسطورة فيس بوك وواتس اب، وخروجهما عن الخدمة فى حجب مؤقت كبد الشركة المالكة ما يزيد علي 7 مليارات دولار، عادت تساءولات عدة للأذهان بمقدمتها مدى سلامة الممارسات المالية لعمالقة التكنولوجيا، لاسيما فيما يتعلق بضوابط ومعايير النشر وسوق الإعلانات الرقمية.
وشهد الكونجرس الأمريكي، الثلاثاء، جلسة استماع لمسئولة سابقة بإدارة موقع فيس بوك لمناقشة معايير مكافحة خطاب الكراهية بعد ان اتهمت فرانسيس هاوجين إدارة الموقع بالسعي فقط وراء الربح دون اعتبار لمكافحة خطاب الكراهية وغير ذلك من التجاوزات، بما فيها المخالفات المالية.
وخاضت العديد من الحكومات مواجهات تشريعية وقضائية في كثير من الأحيان مع إدارة جوجل وفيس بوك بسبب حقوق الناشرين، وكانت آخر تلك المواجهات في استراليا خاضت الحكومة نزاع طويل مع إدارة فيس بوك وجوجل انتهت برضوخ إدارة الموقعين وتوقيع اتفاقية مع الناشرين في يونيو الماضي يتم بموجبها دفع 200 مليون دولار سنوياً مقابل نشر المحتوي الإخباري الذي تنتجه وسائل الإعلام الاسترالية.
قانون مساومة وسائل الإعلام الإخبارية
وفى ذلك الحين، قال رود سيمز، رئيس لجنة المنافسة والمستهلك فى استراليا، لصحيفة فاينانشيال تايمز إن قانون مساومة وسائل الإعلام الإخبارية فى البلاد قد أجبر شركات التكنولوجيا الكبيرة على الجلوس على طاولة المفاوضات للاتفاق على صفقات مع الناشرين.
وتابع رئيس لجنة المنافسة والمستهلك فى أستراليا أنهم فى طريق للوصول إلى اتفاقيات محتوى، ويعد هذا نجاحا هائلا، مشيرا فى مقابلته مع الصحيفة إلى أنهم كلجنة المنافسة موجودون والشركات الإعلامية سعيدة، وهذه هى النقطة الأساسية.
شركات في أستراليا وجوجل وفيس بوك
وجاءت تصريحات سيمز بعد تأكيد شركة ناين للترفيه، أحد أكبر الشركات فى أستراليا، أنها وقعت اتفاق محتوى مع جوجل وفيس بوك، ولم تكشف الشركة المالكة لصحيفة سيدنى مورننج هيرالد العريقة عن الشروط التجارية للاتفاق، إلا أن التقديرات تشير إلى أن مكاسب وحدة النشر الخاصة بها ستقفز ما بين 23 إلى 31 مليون دولار فى العام المالى 2022.
كما أن شركات الإعلام الكبرى الأخرى فى استراليا مثل نيوز كورب، وسيفين ويست ميديا، وهيئة البث الحكومية ABC، قد توصلت إلى اتفاق محتوى مماثل مع فيس بوك وجوجل أو وقعوا خطابات نوايا لفعل ذلك.
وكذلك فإن العشرات من صغار الناشرين توصلوا إلى اتفاقيات بالفعل أو يتفاوضون على شروط بعد تمرير قانون فى فبراير الماضى، يهدف إلى جعل شركات التكنولوجيا الكبرى تدفع مقابل نشر الأخير.
ويقول المحللون إن النجاح الحالى للقانون الأسترالى قد يدفع حكومات أخرى كافحت لتنظيم فيس بوك وجوجل لتبنى نموذج مشابه.
الاتفاق الذي جمع استراليا مع جوجل وفيس بوك، جاء بعدما أقدمت إدارة موقع التواصل الاجتماعي علي حجب صفحات وحسابات الصحف والقنوات الاسترالية من علي المنصة في فبراير الماضي، بجانب حجب عدد من الحسابات الحكومية كما هددت جوجل بإغلاق محرك البحث الخاص بها في أستراليا.
2015 جرس إنذار
وبدأت الشرارة الأولي للمواجهة بين الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، في نهاية عام 2015، فبوتيرة متسارعة توالت التحذيرات لتتحول إلى جرس إنذار دوى صداه داخل دور نشر عالمية، وصحف محلية على حد سواء، ليبدأ صناع الصحافة والإعلام المطبوع والإلكترونى المطالبة عبر وسائل عدة، بإعادة توزيع عادلة لعائدات الإعلانات مع تحركات جادة لحماية حقوق الملكة الفكرية، وما يبذل من جهد صادق للحصول على معلومة دقيقة لا تخدم إلا القارئ أينما كان، بعدما تحولت مواقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" و"تويتر"، بخلاف محرك البحث الشهير إلى منافس غير شريف يمتلك الحق فى نشر المحتوى دون مقابل ويقاسم المؤسسات الإعلامية عائدات الإعلانات دون قواعد.
وفي يونيو 2016، صدمت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية قرائها بقرار إلغاء منصب "المحرر العام" المعروف إعلامياً بأمين عام المظالم، وهو منصب يتولى دور المحكم بين القارئ والمحرر حال حدوث خلال أو مشكلات، مشيرة إلى أنها ستعتمد أكثر على ما يردها من تعليقات مفتوحة للقراء على ما تنشره من مواد على موقعها الإلكترونى.
أزمة الصحافة
وبعد أسابيع من قرارها، أرسلت الصحيفة بريد إلكترونى داخلى لموظفيها، نشرت تفاصيله صحيفة فينانشيال تايمز البريطانية، وقالت فيه إن "الصحفيين من الممكن أن يتعرضوا لتسريح إجبارى حال عدم وجود عدد كاف من مشترى الأسهم".
وكان من بين الوظائف المخطط تقليصها وظيفة الديسك مان أو المحررين الذين يراجعون المحتوى قبل النشر، وهو ما استقطب غضب هؤلاء المحررين الذين كتبوا رسالة إلى إدارة الجريدة، قالوا فيها إنهم "جهاز المناعة" بالنسبة لأى صحيفة وإنهم المجموعة التي تحمي المؤسسة من أخطاء محرجة للغاية، بحسب "فايننشال تايمز".
وفى ظل السطو الذى يمارسه جوجل وفيس بوك على سوق الاعلانات الرقمية ، طالب اتحاد ناشرى الصحف الكبرى فى الولايات المتحدة الكونجرس بالتدخل مؤخراً، ومنحهم الحق للتفاوض جماعيا مع منصات وسائل التواصل الإجتماعى.
مكافحة الاحتكار
وقرر المديرين التنفيذيين لوسائل الإعلام الأمريكية الكبرى أن الوقت بات ينفد لإجراء التغيير اللاز، وبحسب تقرير سابق نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز فإن مجموعة تسمى تحالف وسائل الاعلام، يضم ناشر نيويورك تايمز وناشر صحيفة وول ستريت جورنال، بالإضافة إلى عشرات الصحف الصغيرة، تدعو المشرعين الفيدراليين إلى منح الصناعة استثناء من قواعد مكافحة الاحتكار للتفاوض بشكل جماعى مع عمالقة التكنولوجيا.
وقالت الصحيفة في ذلك الحين إنه من خلال الإتحاد فإنه يمكن لوسائل الإعلام أن يكون لديهم تأثير أكبر فى مواجهة شركتى فيس بوك وجوجل اللتان تستحوذا على أكثر من 70% من سوق الإعلانات الرقمية فى الولايات المتحدة، الذى يبلغ 73 مليار دولار.
وقال ديفيد تشافيرن، الرئيس والمدير التنفيذى لتحالف وسائل الإعلام الإخبارية، فى مقال بصحيفة وول ستريت جورنال "إن فيس بوك وجوجل لا توظف الصحفيين ولا تتعقب السجلات العامة للكشف عن الفساد، وإرسال المراسلين فى مناطق الحرب، انهم يتوقعون أن يقوم صناع الأخبار، الذين يتعرضون للضغوط الاقتصادية، أن يقوموا بذلك العمل المكلف بدلا منهم".
وأضاف تشافيرن: "الطريقة الوحيدة التى يمكن للناشرين أن يواجهوا بها هذا التهديد العنيد هى الإتحاد معا"، وأضاف "إذا فتحوا جبهة موحدة للتفاوض مع جوجل وفيس بوك، عاملين على الدفع نحو تعزيز حماية الملكية الفكرية ودعم أفضل لنماذج الاشتراك وتحقيق حصة عادلة من الإيرادات والبيانات، فيمكن أن نبنى مستقبل أكثر استدامة لصناعة الأخبار".
وسائل الإعلام وصناعة الدعاية والإعلان
وفى 2017 ، بدأت هيئة حماية المنافسة الاسترالية، تحقيقاً رسمياً للتعرف على مدى تأثير تلك المواقع، وغيرها من المنصات الرقمية على وسائل الإعلام وصناعة الدعاية والإعلان، حيث قالت صحيفة فينانشيال تايمز في ذلك الحين إن التحرك الجديد يأتى فى أعقاب أمر من الحكومة الأسترالية لإجراء تحقيق رسمى فى تأثير عمالقة الإنترنت على هذه الصناعة، وذلك كجزء من تغييرات قوانين الإعلام فى سبتمبر الماضى، وهو ما يأتى وسط دعوات دولية لتنظيم أكثر صرامة لعمل شركات التكنولوجيا التى برزت سلطتها ونفوذها السياسى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016.
وقال رود سيمز، رئيس لجنة المستهلك والمنافسة الاسترالية: "إن لجنة التنسيق الادارية بدأت هذا التحقيق بعقل مفتوح وستدرس كيف تعمل المنصات الرقمية مثل الفيس بوك وجوجل لفهم نفوذها بشكل كامل فى استراليا". وأضاف "سوف ندرس ما إذا كانت المنصات تمارس القوة السوقية فى التعاملات التجارية بما يضر بالمستهلكين ومنشئى محتوى وسائل الإعلام والمعلنين".
وسائل الإعلام التقليدية وتمويل تطوير المحتوى
وقالت اللجنة انها ستبحث عن كثب الاتجاهات طويلة الأجل، وتأثير التغير التكنولوجى على المنافسة فى الإعلام والإعلان، وقال سيمز: "مع تطور قطاع الإعلام، هناك مخاوف متزايدة من أن المنصات الرقمية تؤثر على قدرة وسائل الإعلام التقليدية على تمويل تطوير المحتوى".
وبلغ إجمالى عائدات الإعلانات فى صناعة الصحف الأمريكية 18 مليار دولار أمريكى العام 2016، مقارنة بحجم إيرادات 49 مليار دولار أمريكى قبل عقد من هذا التاريخ، ذلك وفقا لدراسة أعدها مركز بيو للأبحاث. واستحوذ فيس بوك وجوجل على 85٪ من إجمالى إيرادات الإعلانات على الإنترنت خلال عامى 2015 و 2016، وفقا لتقرير اتجاهات الإنترنت لعام 2017 الذى نشرته شركة كلينر بيركنز كوفيلد & بييرس.
وفى منتصف 2017، تم استدعاء المديرين التنفيذيين لجوجل وفيس بوك أمام لجنة برلمانية أسترالية للنقاش بشأن مستقبل الصحافة، بعد خسارة نحو 2000 فرصة عمل عبر القطاع في الفترة ما بين 2011 وحتي بداية 2017، ودرس التحقيق ما إذا كان فرض رسوم على شركات التكنولوجيا التى تحصل على الإعلانات عن طريق تجميع المحتوى الإخبارى، سيكون وسيلة ناجحة لدعم الصحافة.
ميردوخ يعترف بتضرر الصحافة المطبوعة
وفي يوليو 2017، أعلن إمبراطور الإعلام العالمى الشهير روبرت ميردوخ، إنه لا يتطلع لتوسيع إمبراطوريا لصحفه، معترفا بأن الإعلام الإليكترونى شكل ضررا كبير على الصحافة المطبوعة، وأن العديد من المؤسسات الصحفية تعانى من تلك المشكلة.
وردا على سؤال فى مؤتمر صحفى خاص بمجموعته الإعلامية يتعلق باحتمال شراء شركته مزيد من الصحف، أجاب الرئيس التنفيذى لنيوز كورب البالغ من العمر 86 عاما قائلا: "ليس بالفعل، لا. نحن منشغلين للغاية لجعل صحفنا الحالية قابلة للاستمرار".
وقال إنه يعتقد أن أكبر ثلاثة نجاحات حققها هى فى أكبر ثلاث صحف وطنية، وهى تايمز اللندنية وول ستريت جورنال الأمريكية، و"أستراليان" فى أستراليا، فى حين أن الصحف الآخرى، الكثير منها لا يزال قادر على الاستمرار، لكنها تصارع.