المسؤولية الجنائية هي صلاحية الشخص إلى أن يتحمل تبعات سلوكه الذى قد يشكل جريمة، وأساس المسؤولية الجنائية لدي الفكر الجنائي الحديث حرية الإنسان في الاختيار، فقد كان في وسعه أن يكون خيرا، ولكنه تخلى عن الطريق السوى وسلك الطريق المعوج، فحق عليه العقاب، وبالتالي لا تنتفي المسؤولية عنه إلا إذا فقد الشخص قدرته على الإدراك والاختيار.
التشريع قديما أعتبر المرض النفسى لا يندرج ضمن موانع العقاب
مثال ذلك - الجنون وعاهة العقل، ونص قانون العقوبات الصادر سنة 1937 علي أنه لا عقاب علي من يكون، فاقدا الشعور والاختيار لحظة ارتكاب الجريمة لجنون أو عاهة في العقل، أما الاضطرابات النفسية أو بالأحرى المرض النفسي، فكان حتي وقت قريب لا يترتب عليه تخلف المسؤولية الجنائية، إذ كان الأطباء وعلماء النفسي، يرون أنه مجرد خلل في شخصية الإنسان يجعله غير سوي، ولكن لا يفقده الإدراك والشعور تماما.
مدى أثر اضطرابات الشخصية النرجسية علي المسؤولية الجنائية؟
وخلال الفترة الماضية وقعت العديد من الجرائم باسم "مريض نفسى" وشغلت الرأى العام منذ وقوعها، لا لبشاعة تفاصيلها وغموض أحداثها فقط، إنما لاكتشاف أن مرتكبها مريضا نفسيا، فالأب يقتل أبناءه بدم بارد والزوج يُمثل بجسد زوجته أو يقتلها أمام أعين أبناءه، والأخ يلتهم أحشاء أخيه فى غفلة من الزمن، وأخر يقتل صديقه ويقطع رأسه ويتجول بها في الشارع، وبدون مقدمات ومؤشرات أولية تنذر أن هناك قنابل موقوتة.
في التقرير التالي، يلقى "اليوم السابع" الضوء على إشكالية، تتمثل فى أثر الاضطرابات النفسية علي المسؤولية الجنائية؟ أو بمعنى أدق هل المرض النفسى سبب في الإعفاء من الجريمة أو تخفيف العقوبة؟ وهل تفشى المرض النفسي في المجتمع؟
نص مستحدث بشأن الاضطراب النفسى
بحسب الخبير القانونى والمحامى بالنقض إسماعيل بركة، فقد نصت المادة 62 فقرة 1 عقوبات المستبدلة بالقانون رقم 71 لسنة 2009 بشأن رعاية المريض النفسى، وهو نص مستحدث، على إضافة الاضطراب النفسى للمتهم إذا ما أفقده الإدراك أو الاختيار وقت ارتكاب الجريمة واعتبره سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية، حيث أنه لا يسأل جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلي أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذى يعانى من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو عن غير علم منه، ويظل مسئولًا جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة – وفقا لـ"بركة".
تعيين خبير للبت فى حالة المتهم
وأضاف : إذا اقتصر أثره على الانتقاص من إدراك المتهم أو اختياره يظل المتهم مسئولًا عن ارتكاب الجريمة، وإن جاز اعتبار هذا الانتقاص ظرفًا مخففًا يصح للمحكمة الاعتداد به عند تقدير العقوبة التى توقع عليه، وقد استقرت محكمة النقض على أن تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية من المسائل الموضوعية التى تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه لسلامة الحكم يتعين إذا ما تمسك به المتهم أن تجرى تحقيقًا فى شأنه بلوغًا كفاية الأمر فيه، ويجب عليها تعيين خبير للبت فى هذه الحالة إثباتًا أو نفيًا، أو أن تطرح هذا الدفاع إذ لا يصح طرحه بخلو الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلي – الكلام لـ"بركة".
وتابع بركة : المادة 338 نصت على أنه إذا دعا الأمر إلى فحص حالة الاضطراب العقلي للمتهم يجوز لقاضى التحقيق أو للقاضي الجزئي كطلب النيابة العامة أو المحكمة المنظورة أمامها الدعوى على حسب الأحوال أن يأمر بوضع المتهم إذا كان محبوسًا احتياطيًا تحت الملاحظة فى إحدى منشآت الصحة النفسية الحكومية المخصصة لذلك لمدة أو لمدد لا يزيد مجموعها على 45 يومًا بعد سماع أقوال النيابة العامة والمُدافع عن المتهم أن كان له مُدافع".
وضع المتهم تحت الملاحظة 45 يومًا
فيما يجوز إذا لم يكن المتهم محبوسًا احتياطيًا أن يأمر بوضعه تحت الملاحظة في أي مكان آخر، كما نصت المادة 339 على أنه إذا ثبت أن المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب اضطراب عقلي طرأ بعد وقوع الجريمة يوقف رفع الدعوى عليه أو محاكمته حتى يعود إليه رشده، ويجوز في هذه الحالة لقاضي التحقيق أو للقاضي الجزئي كطلب النيابة العامة أو المحكمة، المنظورة أمامها الدعوى إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتهما الحبس إصدار الأمر بحجز المتهم في أحد المحال المعدّة للأمراض العقلية إلى أن يتقرر إخلاء سبيله".
وقال بركة : إذا صدر أمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى أو حكم ببراءة المتهم وكان ذلك بسبب اضطراب عقلي تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم، إذا كانت الواقعة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض النفسية إلى أن تأمر الجهة التي أصدرت الأمر أو الحكم بالإفراج عنه، وذلك بعد الاطلاع على تقرير مدير المحل وسماع أقوال النيابة العامة وإجراء ما تراه لازمًا للتثبت من أن المتهم قد عاد إلى رشده" – الكلام لـ"الجعفرى".
محكمة النقض والتصدى للأزمة
محكمة النقض المصرية هي الأخرى تصدت للإجابة على السؤال متى يكون الاضطراب النفسي سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية أو ظرفًا مخففاً للعقوبة؟ وعلاقة الأزمة بالمادة 62 عقوبات المستبدلة بالقانون رقم 71 لسنة 2009 بشأن رعاية المريض النفسي، فى الطعن المُقيد برقم 27158 لسنة 86 قضائية.
قالت المحكمة فى حيثيات أحد أحكامها، أن دفاع المتهم بالمنازعة فى مدى مسئوليته لإصابته بمرض نفسى أو عقلى ينال من إدراكه أو شعوره يُعد دفاعاَ جوهرياَ، وعله أساس ذلك، تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية، ووجوب تحقيق محكمة الموضوع لها وتعيين خبير للبت فيها إثباتا أو نفيًا، ما دام المتهم قد تمسك بها - لما كان الحكم قد عرض لدفاع الطاعن واطرحه فى قوله : "وحيث إنه وعن الدفع بامتناع عقاب المتهم عملًا بنص المادة 62/1 عقوبات فإنه مردود إذ خلت الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى افقده الإدراك أو الاختيار ومن ثم تقضى المحكمة برفض هذا الدفع".
المادة 62 من قانون العقوبات
وكان النص فى المادة 62 من قانون العقوبات المستبدلة بالقانون 71 لسنة 2009 بإصدار قانون رعاية المريض النفسى وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات قد نص على أنه: " لا يسأل جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أفقده الإدراك أو الاختيار أو الذى يعانى من غيبوبة ناشئة عن عقاقير مخدرة أيًا كان نوعها إذا أخذها قهرًا عنه أو عن غير علم منه، ويظل مسئولًا جنائيًا الشخص الذى يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلى أدى إلى إنقاص إدراكه أو اختياره، وتأخذ المحكمة فى اعتبارها هذا الظرف عند تحديد مدة العقوبة".
النص مستحدث ويتمثل في إضافة الاضطراب النفسي للمتهم إذا ما أفقده الإدراك أو الاختيار وقت ارتكاب الجريمة واعتبره سببًا للإعفاء من المسئولية الجنائية، أما إذا اقتصر أثره على الانتقاص من إدراك المتهم أو اختياره يظل المتهم مسئولًا عن ارتكاب الجريمة، وإن جاز اعتبار هذا الانتقاص ظرفًا مخففًا يصح للمحكمة الاعتداد به عند تقدير العقوبة التي توقع عليه، وإذ كان دفاع المتهم بالمنازعة في مدى مسئوليته لإصابته باضطراب نفسى أو عقلي ينال من إدراكه أو شعوره، دفاع جوهري إذ يترتب على ثبوته إعفاء المتهم عن المسئولية أو الانتقاص منها وفق ما تضمنه النص سالف الذكر .
ولئن كان من المقرر أن تقدير حالة المتهم العقلية أو النفسية من المسائل الموضوعية التى تختص محكمة الموضوع بالفصل فيها، إلا أنه لسلامة الحكم يتعين إذا ما تمسك به المتهم أن تجرى تحقيقًا فى شأنه بلوغًا كفاية الأمر فيه، ويجب عليها تعيين خبير للبت فى هذه الحالة إثباتًا أو نفيًا، أو أن تطرح هذا الدفاع بما يسوغ - لما كان ذلك، وكان ما رد به الحكم على دفاع الطاعن فى هذا الشأن – على السياق المتقدم – لا يسوغ به اطراحه، إذ لا يصح اطراحه بخلو الأوراق مما يفيد على وجه قاطع أن المتهم كان يعانى وقت ارتكاب الجريمة من اضطراب نفسى أو عقلي لأن إبداءه يتضمن الدعوة إلى تحقيقه، مما يصم الحكم – فى الرد على هذا الدفاع بالقصور فى التسبيب والفساد فى الاستدلال.
استشارى الطب النفسى
أما عن رأى الطب النفسى - يقول الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، إن 17% مصابون باضطرابات نفسية، ما قد يدفعهم لارتكاب جرائم بسبب الضغوط الحياتية والظروف الاجتماعية، والمخدرات أيضًا ساهمت في زيادة نسبة الأمراض النفسية والعقلية، حيث أن المجرم المريض "معذور"، ومن الضروري علاجه وإخلاء مسئولية الجريمة عنه.
ويُضيف "فرويز" في تصريح خاص - أن انتشار جرائم المرض النفسي معضلة لا يزال يعانى منها المجتمع، حيث أن المرضى الذين يرتكبون جرائم مثل مريض الفصام التشككى، الذى يعانى من ضلالات، فيقدم هو على إيذاء الآخرين دفاعاً عن نفسه، وقد يكون الفصام مصحوباً بهلاوس بصرية وسمعية تأمره بقتل وإيذاء من حوله، ومريض الهوس يقتل أيضاً، ولكن دون تخطيط، فيكون في حالة هياج شديد ويؤذى الآخرين دون عمد، كما أن مريض الاكتئاب العقلي أو السودوي يعانى من ضلالات أيضاً تدفعه أحياناً لقتل نفسه، أو أحد المقربين، فيشعر مثلاً أن أبناءه ملائكة وبقاءهم في الدنيا خطر عليهم فيقتلهم، كما أن مريض الصرع تنتابه نوبات قد تؤذى من حوله، وبعد انقضاء النوبة يكون تائهاً ويمكن أن يرتكب أي جريمة دون وعى.
ووجه "فرويز"، رسالة إلى كل الأسر بأن تجعل أعينها على الأبناء والزوج والزوجة وملاحظة أي تغيير في السلوك أو طريقة الكلام أو مستوى الإنتاج في العمل أو المذاكرة، وتغير في مستوى التفاعل الاجتماعي والتحول للانطوائية، كل هذه مؤشرات كارثية تدعو على الفور للعرض على الطبيب النفسي، مشيرًا إلى أن كل هذه التغييرات مرآة لمرض نفسي وناقوس لخطر قادم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة