تلقى قنصل إنجلترا فى مصر الجنرال «سنانتون» برقية من حكومته صباح الثلاثاء 16 نوفمبر 1875 نصها: «علمت حكومة جلالة الملكة أن نقابة من الماليين الفرنسيين عرضت على الخديو «إسماعيل» شراء أسهمه فى قناة السويس، وأن الصعوبات المالية التى تكتنف سموه تجعل قبوله فى حيز الإمكان، فالمرجو التحقق من صحة هذا النبأ»، حسبما يذكر الدكتور مصطفى الحفناوى فى الجزء الأول من كتابه «قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة».
جاءت هذه البرقية فى ظرف يشرحه الحفناوى، قائلا: «كانت مصر على شفا الإفلاس، ورهنت مواردها موردا وراء آخر فى سبيل القروض المتلاحقة وفوائدها الربوية الفاحشة، وكان عليها أن توفى فى ديسمبر 1875 مبالغ طائلة مستحقة السداد، ولم يبق أمام إسماعيل إلا أن يرهن أسهم مصر فى قناة السويس، وعددها وقتئذ 176 ألفا و603 أسهم، فحاول أن يرهنها فى فرنسا بقرض جديد مقداره أربعة ملايين جنيه، وطلب المرابون فائدة 18% بشرط ألا يقرضوه أكثر من خمسين مليون فرنك، وبشرط حصولهم على موافقة الحكومة الفرنسية التى لم تكن ترحب بمثل هذا القرض.
يشير «الحفناوى» إلى صراع فرنسا وبريطانيا حول شراء أسهم مصر، وفيما كان «ديلسيبس» لا يقلع أبدا عن تفكيره فى سلب مصر الأسهم التى تملكها فى شركة قناة السويس، كان رئيس وزراء بريطانيا اليهودى «دزرائيلى»، مغرما بالقناة، وأراد أن يجعل منها مفتاح امبراطورية لا تغرب عنها الشمس، ولذلك قرر أن تشترى حكومة إنجلترا شركة قناة السويس بأسرها.
يذكر الحفناوى، أن مفاوضات «إسماعيل» مع الفرنسيين للحصول على قرض تطورت إلى بيع للأسهم، ورحب وزير ماليته إسماعيل صديق المفتش بذلك، وقبل الخديو البيع بمقابل 92 مليون فرنك، وظلت هذه المفاوضات فى طى الكتمان، إلى أن علم رئيس وزراء بريطانيا بها، فأرسل برقيته إلى قنصله فى مصر للتحقق.
توجه القنصل إلى نوبار باشا وزير خارجية إسماعيل وصديق بريطانيا فى مصر ليسأله فى الأمر.. يذكر الحفناوى: «أفضى نوبار بالتفاصيل، وأنبه القنصل لأن بريطانيا ظلت حتى هذا الوقت لا تعرف تفاصيل تلك الصفقة، وطلب «سانتون» من إسماعيل المفتش ونوبار وقف المفاوضات مع البيوت المالية الفرنسية، حتى يقف على رأى حكومته، فوعد نوبار بوقفها ثمان وأربعين ساعة، وحصل القنصل فى نفس اليوم على تأكيد من الخديو نفسه بأن المفاوضات ستتوقف، وفى الساعة الثامنة من مساء 18 نوفمبر 1875 أبرقت وزارة الخارجية البريطانية إلى قنصل إنجلترا بالقاهرة طالبة إليه أن يبلغ الخديو قبول حكومته شراء الأسهم بشروط معقولة، واتصل بالخديو على الفور، لكن الخديو اعتذر عن البيع قائلا، إنه يريد تحويل الديون السائرة، إلى ثابتة، ولذلك فإنه مضطر لتقديم الأسهم كضمان لهذا التحويل، وإذا كان ولا بد من البيع فإنه سيعطى الأفضلية للحكومة الإنجليزية».
لم يصمد اعتذار الخديو عن قبول بيع الأسهم طويلا.. يؤكد «الحفناوى»، أن الأيام التالية اشتدت سوءا، واستحال رهن الأسهم، وصار القبول ببيعها حتميا، فأبرق قنصل إنجلترا بذلك إلى حكومته يوم 23 نوفمبر 1875، وبأن الخديو قبل بيع 177 ألفا و642 سهما مقابل مائة مليون فرنك (أربعة ملايين من الجنيهات)، فجاء الرد فى نفس اليوم ببرقية شفرية تفيد قبول الحكومة الإنجليزية، وأن بنك «روتشلد» بلندن تعهد بأداء الثمن للخديو فورا، وتمت الصفقة، وتحرر العقد ووقعه «إسماعيل صديق المفتش» نائبا عن الحكومة المصرية، والجنرال «سنانتون» القنصل البريطانى نائبا عن حكومة بلاده يوم 25 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1875.
كان مجلس العموم البريطانى فى عطلة، وما كان يمكن عرض الأمر عليه، وفقا للحفناوى، مضيفا: «بل أكثر من ذلك أبرم دزرائيلى الصفقة قبل أن يرجع إلى مجلس الوزراء مجتمعا إذ توجه إلى بيت روتشلد بلندن، وطلب المبلغ ولما قال له روتشلد ماهو الضمان، أجابه دزرائيلى: «الضمان الذى أعطيه لك هو كلمة الوزير الأول فى إنجلترا»، وحصل «روتشلد» على سمسرة قدرها 2.5% من الثمن، تعهدت الحكومة الإنجليزية بدفعها، علاوة على فائدة 5% سنويا، تحتسب له من يوم أدائه الثمن للحكومة المصرية إلى أن يتسلمه من الحكومة الإنجليزية، وفى 27 نوفمبر 1875 عرض «دزرائيلى» أمر الصفقة على مجلس الوزراء، وحصل على موافقته بعد أن وضعه أمام الأمر الواقع».
يذكر «الحفناوى» أنه قبل إبرام العقد تبين أن الأسهم لم تكن 177 ألفا و642 سهما، بل كانت 176 ألفا و603، ولذلك سوى حساب الثمن بعد استبعاد قيمة ألف و40 سهما ناقصة، فصار الثمن 3 ملايين و976 ألفا و582 جنيها إنجليزيا، واتفق على أن يدفع من الثمن 25 مليون فرنك فى أول ديسمبر، ويسدد الباقى فى خلال شهرى ديسمبر ويناير.