فن الأغنية يقوم على فكرة التجديد، فلا شىء ثابت فى عالم الموسيقى، ودائما هناك جديد، يتقبله البعض ويعارضه البعض، وذلك بسبب اختلاف الذائقة، ومؤخرًا انتشر فى مصر فن "التراب" حيث تعصب له الشباب الصغير والمراهقون، بينما راحت الأجيال الأكبر تنظر إليه بتوجس، لكن من اقترب منه واستمع إليه استطاع أن يشكل لنفسه رؤية معينة، فدعونا نقترب ونلقى نظرة على هذا الفن.
ويجز
المعروف أن الأغنية حسب مفهومنا فى الثقافة العربية، تقوم على (الكلمات، واللحن، والصوت) وهنا سنهتم بالكلمات فى هذا النوع الجديد من الموسيقى، ونتوقف عند أشهر مطربى التراب فى مصر (أبيوسف، ويجز، شاهين، مروان بابلو" ونقرأ معا بعض كلمات أغنياتهم.
ويجز وشعرية الكلمات
يعد ويجز من أشهر فنانى "التراب" فى مصر، وتكفى صورة انتشرت مؤخرًا، على مواقع التواصل الاجتماعى، كى نعرف مدى الشهرة التى حققها، والكلمات لافتة فى أغنيات "ويجز" وهى عادة من تأليفه:
فى البداية نتوقف عند أغنيته الأشهر "باظت باظت"، وعنوان الأغنية كافٍ لنعرف كيف حققت هذه الكلمات نجاحًا عند الشباب الصغير، فهى معبرة عن حالة الغضب التى عادة ما تكون مشتعلة فى نفوس المراهقين، حيث يرون كل شيء غير مكتمل أو فى سبيله للتلف.
لكن لو انتقلنا إلى أغنية "21" فإن كلماتها تقول:
لقد استوفتنى جملة مهمة تقول "مفيش وقت لو همشى لابس 5 ساعات"، هذه الجملة يمكن النظر إليها من زوايا متعددة، من زاوية علم الاجتماع حيث الحياة تجرى متصارعة لدينا زحام فى كل شيء، ومن الزاوية النفسية تكشف عن القلق الذين يصيب الإنسان عادة لكون عمره يضيع وأحلامه تتلاشى، ومن زاوية الرمز "حيث العمر يضيع ولا شىء قادر على حفظ التوازن، حتى لو فكرنا بطريقة "عبثية" وارتدينا خمس ساعات فى أيدينا.
ويجز
وعلى الرغم من كون هذه النوع من الأغانى يقوم على فكرة مواجهة الآخر وإعلاء قيمة الذات، إلا أننا نجد "ويجز" فى كلماته يناقش بعض القضايا الاجتماعية، فيقول مثلا فى الأغنية نفسها:
"ياخويا فى مشاكل
بس نشكى لمين
ياخويا فى مساكن
شباب ع مراكب
و الحرس بيراقب
روما مش بعيد
الصحاب غرقانة"
شاهين
تطل علينا أزمة الهجرة غير الشرعية التى قد يفكر فيها بعض جمهور ويجز من الشاب الحالمين بأحلام لا يعرفون عاقبتها، فيرصدها ليس من زاوية النجاة وتحقيق الأحلام، لكن من زاوية الغرق، من زاوية الألم الذى سيصيب الجميع نتيجة هذه المغامرة الكارثية.
وقدم ويجز أعينة إنسانية بالفعل هى "دموع مالحة" والتى يقول فيها:
"ارمى ع قبرك ورود
ادعى ياجيلك يا تعود
روحك بتطوف بتطوف
حساك موجود"
وهى حسبما جاء فى مقدمة "الأغنية المصورة" إهداء إلى روح "محمد على" وهى قصيدة رثاء، ويمكن القول إنها رثاء للذات أيضا.
"من غير أخوك المكان كئيب
المكان كئيب
مهما العمر يفوت
و الأيام تنسيك
متنسانيش".
ويأتى الرثاء هنا، على الطريقة العربية القديمة، فيرصد أثر الفقد على المكان، لقد تغير المكان صار كئيبا مقبضا، يدل على الأخ الذى رحل، ثم يتبعه بوعد بالتذكر وعدم النسيان مهما مر الوقت.
ويجز
وحتما سوق يستوقفك مقطع مهم فى الأغنية يقول:
"واخد حُريتك زى الطير ف الهوا
هنتقابل تانى كل حاجه ف وقتها
بس دلوقتى أقول الوداع و استناك
و اعد الأيام عشان نبقى سوا".
لا يملك الفاقد سوى الخيال يبعثه، عليه أن يتخيل الفقيد فى وضعية أفضل، حيث الحرية التى تشبه حرية الطير، إن ذلك نوع من "التصبر على الفجيعة" كى نستطيع احتمالها، نودع الأحباب، ونواصل الوعد بالتذكر ومطاردة الزمن، لأنه الحائل الوحيد الذى يواجهنا للقياهم.
أما أغنية "الزار" فهى تنطلق من إثبات الذات، الغرض الأساسى لهذا النوع من الأغنيات، ولكن استوقفنى مقطع مهم يقول فيه:
"زمايلى وأعدائى الاتنين كتار
ماما متخافيش احنا الأشرار"
حيث يقدم مفارقة قوية على مستوى الشعر، فعلى الرغم من كون الثقافة العربية والقصص الشعبية تتغنى دائما بالطيبين وتعدهم بالفوز فى النهاية، لكن الواقع المحيط لا يؤكد ذلك، بل يذهب البعض إلى أن الأشرار عادة ينتصرون، لذا فإن الكلمات هنا الموجهة إلى الأم لطمأنتها، تؤكد أن الطمأنينة تأتى من زاوية غير متوقعة هى وجودنا فى خانة الأشرار.
أبيوسف
أبيوسف.. وأوهام
نجم آخر من نجوم فن "التراب" هو أبيوسف، ويمكن لنا أن نتوقف عند أغنيته "أوهام"، والتى يقول فيها:
"كذبت كتير و عمرى ما من ده استفدت
عمل بس بينى و بين لسانى سد
بتجر فى أوهام و للواقع بتشد
زى زى أى حد"
لا أقول إن هذه الأغنية تقدم لنا درسا "أخلاقيا"، لكن نقول إنها تعود بنا إلى الواقع مرة أخرى، مراهنة على قيمة الصدق، حيث الكذب لا يفيد بل يصحبه إحساس كبير بالذنب، وخطابه فى المجمل موجه إلى الطبقة الوسطى التى تعرف قيمة مثل "الصدق" وتستهجن "الكذب".
شاهين.. أغنية ما علينا
لا يزال شاهين يحافظ على كلمات بها درجة من الإيقاع الموسيقى الداخلى الناتج من الحروف المتقاربة، كما أن موضوعاته "حادة" وألفاظه بها "غلظة" لو استطعنا القول، أما موضوعاته فهى تقترب من المجتمع بشكل لى به استعلاء، إنه عادة يرصد ما يحدث.
يقول فى أغنية "ما علينا":
"قلبِك كبير ومش مكفى جسمي
ما أنتيش لوحة فنية عشان تترسمي
فخورة بيا، إتوكسي
سبحان الله زمان ما كانش عاجبك لبسي
ما عرفتش أرسم الدور
ما كنتش دافنشي"
فى هذه الكلمات نجد ملاحظتين مهمتين، الأولى تتعلق بموقفه من ذاته فهو ليس محور الكون، بل شخص عادى جدا يتعجب من كون الآخرين غيروا رأيهم السلبى فى شخصه، ولم يعرف ما الذى جد ليفعلوا ذلك، والنقطة الثانية تتعلق بالثقافة، فنجد استدلاله بالفنان العالمى سيد عصر النهضة دافنشى (1452- 1519) وهو استشهاد فى محله فدافنشى أهم فنان، لكن سياق الاستخدام غريب فالرسم هنا ليس باستخدام الألوان واختلاق منظر، لكنه رسم موقف وتغيير رأي، وهى صورة مركبة، لكنها مفهومة، ويمكن أن نضيف ملاحظة أخرى هى الموسيقى الموجودة فى الكلمات نفسها والمحافظة على الإيقاع الداخلى للكلمات.
مروان بابلو.. وفلسفة الحياة
يعد مروان بابلو واحدا من أشهر نجوم فن التراب، ولعل اسم "بابلو" يذكرك بـ اسم الفنان العالمى "بابلو بيكاسو" ولكن بعيدا عن ذلك يلاحظ فى أغنياته أنه يملك فلسفة واضحة للحياة، يقول مثلا فى أغنية "غابة":
كبرنا فهمنا خسرنا وكسبنا
دايماً حاضرين مهما غيبنا
الفقر شوفنا والقحط عشنا
ربك بيعوض الحمد لله
بداية اسم الأغنية "غابة" دال بقوة على المعادلة التى يقدمها للحياة، فهى غابة علينا أن نخوضها بقوانينها، ونلعبها بمنطق البقاء للأقوى، وهو هنا فى الأغنية يقدم لنا نفسه بوصفه "المجرب" الذى خبر الحياة وعرف كل ما فيها، كما أن استخدامه لصيغة الجمع دالة على أنه ليس وحده من يرى ذلك.
صاحبى الدنيا دى ما بتنصرش البرئ ياه
عشان البشر جم وسنوا القوانين ياه
تقع ثانى تقوم وتقول هل من مزيد ياه
يقف هنا موقف الناصح الذى يوجه نصائحه لجمهوره مستخدما كلمة "صاحبى" الدالة على القرب، ولعل الغريب هنا أنه يرى أن القوانين التى وضعها الإنسان هى سبب كل ما يحدث على الأرض وهى التى حولت الحياة إلى "غابة"؟
ربما تكون المفاجأة التى نخلص منها من هذه القراءة السريعة فى كلمات بعض فنانى التراب، هى أن الثقافة جزء أساسى يفرض نفسه عليهم، ثقافة مستمدة من نواحى متعددة (ثقافة نخبوية وثقافة شعبية) كما أن خطابهم موجه إلى الطبقة الشعبية والمتوسطة وليس مختصا للطبقات العليا.
ويجز
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة