جاءت سنة 119 للهجرة وقد اشتدت قوة المسلمين وصاروا امبراطورية بالمعنى الحقيقي تقع تحيت سيطرتها العديد من الدول والحضارات السابقة، لكن ما الذى يقوله التراث الإسلامى؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "ثم دخلت سنة تسع عشرة ومائة":
ففيها غزا الوليد بن القعقاع بلاد الروم.
وفيها قتل أسد بن عبد الله القسري ملك الترك الأعظم خاقان.
وكان سبب ذلك أن أسد بن عبد الله أمير خراسان عمل نيابة عن أخيه خالد بن عبد الله على العراق، ثم سار بجيوشه إلى مدينة خُتَّل فافتتحها، وتفرقت في أرضها جنوده يقتلون ويأسرون ويغنمون.
فجاءت العيون إلى ملك الترك خاقان: أن جيش أسد قد تفرق في بلاد خُتَّل، فاغتنم خاقان هذه الفرصة فركب من فوره في جنوده قاصدا إلى أسد، وتزود خاقان وأصحابه سلاحا كثيرا، وقديدا وملحا، وساروا في حنق عظيم.
وجاءوا إلى أسد فأعلموه بقصد خاقان له في جيش عظيم كثيف، فتجهز لذلك وأخذ أهبته، فأرسل من فوره إلى أطراف جيشه، فلمها وأشاع بعض الناس أن خاقان قد هجم على أسد بن عبد الله فقتله وأصحابه، ليحصل بذلك خذلان لأصحابه، فلا يجتمعون إليه، فرد الله كيدهم في نحورهم، وجعل تدميرهم في تدبيرهم.
وذلك أن المسلمين لما سمعوا بذلك أخذتهم حمية الإسلام وازدادوا حنقا على عدوهم، وعزموا على الأخذ بالثأر، فقصدوا الموضع الذي فيه أسد، فإذا هو حي قد اجتمعت عليه العساكر من كل جانب.
وسار أسد نحو خاقان حتى أتى جبل الملح، و أراد أن يخوض نهر بلخ، وكان معهم أغنام كثيرة، فكره أسد أن يتركها وراء ظهره، فأمر كل فارس أن يحمل بين يديه شاة وعلى عنقه شاة، وتوعد من لم يفعل ذلك بقطع اليد، وحمل هو معه شاة.
وخاضوا النهر، فما خلصوا منه جيدا حتى دهمهم خاقان من ورائهم في خيل دهم، فقتلوا من وجدوه لم يقطع النهر وبعض الضعفة، فلما وقفوا على حافة النهر أحجموا وظن المسلمون أنهم لا يقطعون إليهم النهر، فتشاور الأتراك فيما بينهم، ثم اتفقوا على أن يحملوا حملة واحدة - وكانوا خمسين ألفا - فيقتحمون النهر، فضربوا بكؤساتهم ضربا شديدا حتى ظن المسلمون أنهم معهم في عسكرهم، ثم رموا بأنفسهم في النهر رمية واحدة، فجعلت خيولهم تنخر أشد النخير.
وخرجوا منه إلى ناحية المسلمين فثبت المسلمون في معسكرهم، وكانوا قد خندقوا حولهم خندقا لا يخلصون إليهم منه، فبات الجيشان تتراءى نارهما، فلما أصبحا مال خاقان على بعض الجيش الذي للمسلمين فقتل منهم خلقا وأسر أمما وإبلا موقرة، ثم إن الجيشين تواجهوا في يوم عيد الفطر حتى خاف جيش أسد أن لا يصلوا صلاة العيد، فما صلوها إلا على وجل.
ثم سار أسد بمن معه حتى نزل مرج بلخ، حتى انقضى الشتاء، فلما كان يوم عيد الأضحى خطب أسد الناس واستشارهم في الذهاب إلى مرو، أو في لقاء خاقان، أو في التحصن ببلخ.
فمنهم من أشار بالتحصن، ومنهم من أشار بملتقاه والتوكل على الله، فوافق ذلك رأي أسد الأسد، فقصد بجيشه نحو خاقان، وصلى بالناس ركعتين أطال فيهما، ثم دعا بدعاء طويل، ثم انصرف وهو يقول: نصرتم إن شاء الله.
ثم سار بمن معه من المسلمين فالتقت مقدمته بمقدمة خاقان، فقتل المسلمون منهم خلقا وأسروا أميرهم وسبعة أمراء معه، ثم ساق أسد فانتهى إلى أغنامهم فاستاقها، فإذا هي مائة ألف وخمسون ألف شاة، ثم التقى معهم، وكان خاقان إنما معه أربعة آلاف أو نحوها، ومعه رجل من العرب قد خامر إليه، يقال له: الحارث بن سريج، فهو يدلهم على عورات المسلمين.
فلما أقبل الناس هربت الأتراك في كل جانب، وانهزم خاقان ومعه الحارث بن سريج يحميه ويتبعه، فتبعهم أسد، فلما كان عند الظهيرة انخذل خاقان في أربعمائة من أصحابه، عليهم الخز ومعهم الكؤسات، فلما أدركه المسلمون أمر بالكؤسات فضربت ضربا شديدا ضرب الانصراف ثلاث مرات فلم يستطيعوا الانصراف.
فتقدم المسلمون فاحتاطوا على معسكرهم فاحتازوه بما فيه من الأمتعة العظيمة، والأواني من الذهب والفضة، والنساء والصبيان، من الأتراك ومن معهم من الأسارى من المسلمات وغيرهم، مما لا يحد ولا يوصف لكثرته وعظمه وقيمته وحسنه.
غير أن خاقان لما أحس بالهلاك ضرب امرأته بخنجر فقتلها، فوصل المسلمون إلى المعسكر وهي في آخر رمق تتحرك، ووجدوا قدورهم تغلي بأطعماتهم، وهرب خاقان بمن معه حتى دخل بعض المدن فتحصن بها، فاتفق أنه لعب بالنرد مع بعض الأمراء فغلبه الأمير فتوعده خاقان بقطع اليد، فحنق عليه ذلك الأمير ثم عمل على قتله فقتله، وتفرقت الأتراك يعدو بعضهم على بعض، وينهب بعضهم بعضا.
وبعث أسد إلى أخيه خالد يعلمه بما وقع من النصر والظفر بخاقان، وبعث إليه بطبول خاقان - وكانت كبارا لها أصوات كالرعد - وبشيء كثير من حواصله وأمتعته، فأوفدها خالد إلى أمير المؤمنين هشام ففرح بذلك فرحا شديدا، وأطلق للرسل أموالا جزيلةً كثيرةً من بيت المال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة