"دع سمائي فسمائي مُحرقهْ...دع قناتي فمياهي مُغرِقهْ...وأحذر الأرض فأرضي صاعقه...هذه أرضي أنا وأبي ضحّى هنا...وأبي قال لنا مزقوا أعداءنا...أنا شعبٌ وفدائيٌّ وثورهْ...ودمٌ يصنع للانسان فجْرهْ..ترتوي أرضي به من كل قطره...وستبقى مصرُ حره مصر حره".. كلمات تغنى بها شعب مصر، وانتجت عام 1956 ، ولم تكن مجرد كلمات بل ملحمة كبرى سطرها رجال بواسل بدمائهم، لم يسمحوا لعدوان ماكر بأن تطأ قدمه شبرا واحدا من أرض مصر.
65 عاما مرت علي دحر أهالي بورسعيد للعدوان الثلاثي في 23 ديسمبر 1956، حيث انتهى بجلاء قوات أكبر 3 دول حينها من أرض المدينة الباسلة ورحيل آخر جندي منها ومنعهم من دخول مصر واحتلالها.
65 عاما مرت وما زال أحفاد 56 يحتفلون في كل عام بهذه الذكري العطرة التي تحييها قلوبهم فخرا وعزة ببطولة واستبسال أجدادهم، ما زالت أرض بورسعيد معطرة بدمائهم الذكية، التي تصرخ شاهدة علي أمجادهم وعراقة أصولهم، وفي هذا الصدد وبحلول تلك المناسبة لنا لقاء مع أحد المؤرخين ببورسعيد ، لنستحضر معا ذكريات أيام العزة والكرامة.
وقال المهندس محمد بيوض – المؤرخ البورسعيدي: نحتفل هذا العام بالذكري 65 لجلاء العدوان الثلاثي عن مصر، والعدوان الأنجلوفرنسي عن بورسعيد، وأصبح عيداً قومياً للمدينة الباسلة في 23 من ديسمبر كل عام وفيه يخرج البورسعيدية فرحاً بهذه المناسبة القومية التي يستعيدون فيها الملاحم البطولية التي سجلها أجدادهم بكلمات من الدماء في كتب التاريخ .
بداية العدوان الثلاثي
مع إعلان تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية من قِبل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، ثارت مطامع بعض الدول مثل فرنسا وانجلترا ومعهما إسرائيل في عودة القناة تحت ولايتهم مرة أخرى ، وهو ما رفضه الشعب المصري وقيادته السياسية، فبدأ العدوان الثلاثي علي مصر في 29 أكتوبر بضرب الأراضي المصرية بالكامل، وعلي بورسعيد كان في يوم 5 نوفمبر، وتم خلاله ضرب محافظة بورسعيد.
بورسعيد تحت القصف
وأوضح المؤرخ محمد بيوض، أنه تم قصف المدينة الباسلة وخاصة الأحياء القديمة مثل حي المناخ الذي تم احراقه وضربه بالنابالم، وجزء كبير جداً من حي العرب، وسقط الشهداء في أماكن عديدة ببورسعيد.
وأضاف، أن العدو حينها بدأ في الإنزال بالباراشوتات في منطقة الجميل، وكانت الدفعة الأولي لجنود العدو حوالي 200 فرد من المرتزقة الهجانة وغيرهم، وحينها رفض أهالي بورسعيد وجودهم واحتلال الأرض وقاموا بإبادتهم جميعاً بالقرب من مطار الجميل غرب المدينة، وشرقاً في بورفؤاد التي تقع علي المجري الملاحي لقناة السويس.
جرائم وخداع العدوان
فوجئ أهالي بورسعيد بدبابات تُقدم علي أرض المحافظة وترفع علم الإتحاد السوفيتي، فهرولوا عليها ظناً منهم أنها تتبع الاتحاد وأتت لانقاذ المدينة من العدوان، إلا أنها كانت خدعة من العدو وانهالت النيران علي البورسعيدية من كل مكان وسقط العشرات من الشهداء.
وأشار المؤرخ البورسعيدي، إلى أن قوات العدوان لم تكتفي بقتل العشرات وحصد أرواحهم، ولكنهم تقدموا بجنازير الدبابات علي أجسادهم في مشهد يدل علي جُرم هذا العدوان الغاشم بالأراضي المصرية.
مقابر شهداء بورسعيد
استكمل "بيوض"، أن أهالي بورسعيد في ذلك التوقيت لم يتمكنوا من دفن ذويهم من شدة قصف العدو ومحاصرتهم بالمدينة، وتراكمت الجثامين في الشوارع وبدأ بعض الأهالي من حملها علي عربات كارو ووضعها علي بوابات المقابر، وتزايدت الأعداد وكادت أن تتسبب في كارثة وبائية بسبب هذه الجثث.
وأكد المؤرخ البورسعيدي، أن المحافظة لن تنسى دور حامد الألفي، حينما فكر في دفن شهداء بورسعيد بأرض ملعب النادي المصري، وبعد امتلاؤه اقترح أيضاً أن يتم وضع أجساد الشهداء في مقبرة جماعية وكتابة الأسماء عليها بعد ذلك، ومن ثم جعله نصبا تذكاريا للشهداء.
وأضاف المهندس محمد بيوض، أن حامد الألفي ترك وصية بأن يتم دفنه وسط الشهداء وبالفعل حدث ذلك، موضحاً أن مقابر بورسعيد تضم العديد من مقابر الشهداء الذين تم دفنهم من قِبل ذويهم خلال الحرب ضد العدوان الثلاثي .
لم يسلم الأموات من ضرب العدو
"لم يسلم الأموات من ضرب العدو" .. جملة دمعت عين المؤرخ البورسعيدي وهو يلفظها من لسانه حزناً علي ما مر به أجدادنا الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم دفاعاً عن أرض الوطن، قائلاً : "قام العدو بالكثير من الغارات لإحتلال مطار الجميل غرب بورسعيد كونه مكانا استراتيجيا مهما، لكن المقاومة الشعبية والفدائيين حالوا دون ذلك، وكان يظن العدو اختفاء الفدائيين في منطقة المقابر، وحينها تم دكها من قبل القصف بالطيران الإنجليزي والفرنسي للعدو ولم يسلم الاموات من ضرب العدو" .
حصار أهل بورسعيد
شهدت بورسعيد أياما عجاف بسبب الحصار، فكانوا يعيشون بلا مياه أو غذاء، حتي أن الصيد كان خطرا علي حياتهم، ففتحوا أبواب الجمارك وأخذوا الدقيق وصنعوا الخبز بالمنازل وعاشوا علي ما تبقي من المكرونة.
وأضاف المهندس محمد بيوض، أن عناية الله كانت حافظه لأهالي بورسعيد حتي أنه مع ندرة المياه وعدم تواجدها ووجود الحرائق إلا أن الأمطار كانت تسقط وتنهال علي المدينة الباسلة وتطفئ الحرائق وحدث ذلك في حي المناخ.
بسالة بورسعيد وخوف العدوان
وذكرت مواقع الإنجليز والفرنسيين، الملاحم البطولية الخارقه التي سجلها أبطال بورسعيد خلال العمليات النوعية التي كانوا يقومون بها حفاظاً علي أرضهم
واستغل الفدائيين الجبن والخوف الذي تملك العدو، فلقد كان الدافع النفسي لدي أبناء بورسعيد أقوي بالدفاع عن أرضهم ووطنهم من دافع العدوان الذي يتمثل في اغتصاب الأرض، وفي هذا السياق كانوا الفدائيين يقومون بخطف السلاح من الدوريات الليلية للعدو وحينها كانت تهرول الدورية خوفاً من القضاء عليها.
حرب المنشورات مع منظمة هاتاشاما
"هاتاشاما" .. هي كلمة مختصرة لـ"هيئة تحرير شعب مصر" وهي منظمة كان يقودها حامد الألفي والعصفوري ومجموعة من الأدباء والشعراء ببورسعيد، حيث كانوا يقومون بكتابة منشورات من شأنها تحفيز المصريين وبث الخوف والرعب في قلوب العدوان الثلاثي، وكانت باللغات العربية والتي توزع علي أبناء بورسعيد والفرنسية والإنجليزية علي مخيمات ومعسكرات العدو .
وأكد المؤرخ البورسعيدي، أن البورسعيدية وصلوا إلي داخل معسكرات العدو عن طريق جنود قبارصه الذين كانوا ضمن صفوف الإنجليز، ولكنهم كانوا علي غير وفاق معهم بسبب احتلال انجلترا لهم وقتها، وكان هؤلاء الجنود على تواصل مع الفدائيين من خلال اتفاق بين الأسقف ماكاريوس "أصبح رئيس قبرص بعد ذلك"، مع الرئيس محمد أنور السادات الذي كان وقتها عضو مجلس قيادة الثورة وقام بإبلاغ الجنود المصريين أنه سيحدث تواصل بين الفدائيين في بورسعيد والجنود القبارصة لتوزيع المنشورات في مخيمات الإنجليز.
عمليات فدائية هامة
سطر التاريخ ملاحما بطولية في فدائية الشعب البورسعيدي، وكان من بين هذه البطولات عمليتين أثرتا في إنسحاب قوات العدو من بورسعيد وجلاء العدوان الثلاثي عن مصر، وفي هذا الشأن تحدث المؤرخ قائلاً " فرنسا كانت تحتل بورفؤاد والرسوة، وانجلترا كانت تحتل باقي بورسعيد، ومع ضغط المقاومة الشعبية انحسر تواجد القوات للعدو في الحي الأفرنجي – الشرق حالياً، ومن بعدها في باب الميناء "20" ومنطقة شارع فلسطين المطل علي المجري الملاحي لقناة السويس " .
وأشار إلى أنه من العمليات التي كان لها تأثير كبير علي رحيل العدوان والإنسحاب من المدينة الباسلة عملية خطف مورهاوس – ابن عمة ملكة انجلترا إليزابيث، والتي نفذتها إحدي المجموعات الفدائية يوم 9 ديسمبر 1956، وظلت جثة مورهاوس في بورسعيد إلى أن تم التفاوض مع انجلترا للحصول على جثته واستبدالها ببعض الفدائيين، وتم التعرف علي جثته من طبيب الاسنان الخاص به
والعملية الثانية هي إغتيال الضابط ويليامز – الذي استعانت به انجلترا لمعرفته بطبيعة المصريين وكان طليق اللسان في التحدث بالعربية وهو ضابط مخابرات، وقام بهذه العملية الفدائي السيد عسران الذي شاهد شقيقه وهو يتم دهسه تحت جنازير دبابات العدو بأحد شوارع بورسعيد، فأخذ بالثأر بقتل هذا الضابط وسائقه.
وعن تفاصيل هذه العملية، أوضح "بيوض"، أن الفدائي السيد عسرا وضع قنبلة داخل رغيف الخبز وتبادل الحديث مع "ويليامز" مشيراً له بأن يأكل هذا الرغيف ومع تكرار رفضه، قام "عسران" بنزع الفتيل من القنبلة فانفجرت في ويليامز وسائقه وماتا متأثرين بالجراح.
كان لهاتين العمليتين تأثير معنوي كبير في صفوف العدو وتزامن مع ذلك ضغط من بعض الدول علي العدوان الثلاثي بسبب ما ارتكبه من جرائم، فأصبحت الخسائر من الداخل والخارج وتمت عملية انسحاب القوات في 23 ديسمبر، وتم نسف تمثال ديلسيبس وتمثال الجندي المجهول الإسترالي النيوزلندي باعتبارهم دليل علي السخرة والعدوان.
وسادت حالة من الفرحة والسرور بين أهالي المدينة الباسلة بورسعيد مع جلاء العدوان الثلاثي مطلقين الأفراح والبهجة والسرور في كل أرجاء المحافظة، وظل هذا اليوم الموافق 23 ديسمبر من كل عام تحتفل بورسعيد خاصة ومصر عامة بهذا الانتصار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة