أولويات عدة، يضعها على عاتقه الرئيس الأمريكي جو بايدن، في المرحلة الراهنة، لإعادة هيكلة العلاقات الدولية للولايات المتحدة لتصبح في صورتها الطبيعية، بعد سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب، والذى تبنى سياسة من شأنها تغيير خريطة الحلفاء والخصوم، في مختلف مناطق العالم، وهو ما يبدو في خطواته الحثيثة نحو التقارب مع أوروبا الغربية، باعتبارها الحليف الرئيسى لواشنطن، لعقود طويلة من الزمن، بالإضافة إلى كونها "بوابة" الهيمنة الأمريكية على العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بينما تعززت العلاقة بشكل كبير بعد ذلك، في أعقاب الحرب الباردة، حيث ساهمت دول القارة العجوز، عبر الاتحاد الأوروبى، في تدعيم الهيمنة الأحادية لواشنطن على العالم، لسنوات طويلة.
إلا أن اعتلاء واشنطن الصدارة المنفردة للنظام الدولى، ما كان لها أن تتحقق، بدعم أوروبى فقط، حيث تبقى الهيمنة الإقليمية على المحيط الجغرافى للولايات المتحدة، شرطا رئيسيا، باعتباره "نواة" العلاقات الدولية لأمريكا، ومنها تخرج إلى دوائر أوسع من القيادة، وهو ما يبدو بوضوح في الحرص الأمريكي على دعم علاقتها بدول الجوار، وعلى رأسها كندا، والتي لعبت دورا رئيسيا في دعم القيادة الإقليمية لواشنطن، لتنطلق منها نحو قيادة العالم، خاصة وأن الحدود بين البلدين تعد الأكبر في العالم، بمساحة بطول 8900 كيلومتر، وهو ما يترجم العلاقات القوية التي جمعت بين البلدين لسنوات طويلة، تجسدت في صورة العديد من المزايا التجارية والاقتصادية، التي منحتها واشنطن لأوتاوا، مقابل دعم سياسى كندى، فيما يشبه "صفقة" ضمنية، تتشابه إلى حد كبير مع صفقات أخرى مماثلة التزمت بها الإدارات المتعاقبة، مع الحلفاء في مختلف مناطق العالم.
ولكن يبقى المشهد مختلفا إلى حد بعيد خلال سنوات ترامب بالبيت الأبيض، في ضوء شعار "أمريكا أولا"، والذى كان بمثابة بوابته لدخول البيت الأبيض في عام 2017، ليرفع جزء كبير من المزايا الأمريكية الممنوحة للحلفاء، سواء كانوا من دول الجوار، أو في مناطق أخرى، على اعتبار أن تلك المزايا، وخصوصا الاقتصادية، كانت سببا في تراجع الأوضاع في الداخل، بينما كان المواطن بمثابة الضحية الأولى لها لعقود طويلة، وهو ما ترجمته الإدارة السابقة في العديد من القرارات وأبرزها فرض التعريفات الجمركية، والتي كانت سببا في تراجع العلاقات مع العديد من الحلفاء، وبالتالي دول الجوار.
وهنا تصبح العودة إلى الجوار، بمثابة أولوية مهمة، أو على الأقل أحد الأولويات، في المرحلة المقبلة، خاصة وأن العلاقات الأمريكية مع المحيط الجغرافى تشهد توترات غير مسبوقة في السنوات الماضية، في ظل رؤية الإدارة السابقة.
الحليف الكندى.. "صنع في أمريكا" تزيد الفجوة بين واشنطن وأوتاوا
ولعل كندا تمثل أحد أبرز دول الجوار الأمريكي، في ظل مساحتها الشاسعة، بالإضافة إلى مكانتها الاقتصادية، التي تمنحها المزيد من الزخم الدولى، إلا أن الرئيس السابق ربما لا يلتفت كثيرا لتلك الاعتبارات، في ضوء شعار "أمريكا أولا"، والذى تحول إلى سياسة، وهو ما أدى إلى توتر كبير في العلاقة بين البلدين، ربما ترجمته العديد من المواقف التي ظهر فيها أن ثمة خلافا عميقا بين ترامب، ورئيس الوزراء الكندى جاستن ترودو، تجلت في أبهى صورها إبان قمة "السبع"، التي استضافتها الأراضى الكندية، عندما وجه الأخير انتقادا حادا للإدارة الأمريكية على خلفية الرسوم الجمركية المفروضة على صادرات بلاده، وهو ما دفع ترامب للرد بوصفه "ضعيف وغير نزيه".
رئيس الوزراء الكندى جاستن ترودو
وعلى الرغم من أن قضية الرسوم الجمركية تبقى الخلاف الرئيسى بين البلدين، إلى جانب قضايا سياسية أخرى ربما لا تمثل نفس الأهمية، إلا أن الرئيس الجديد جو بايدن، مازال لم يحرك ساكنا تجاهها، بل أن مبادرته التي أطلقها مؤخرا، تحت شعار "صنع في أمريكا"، ربما تساهم في زيادة الفجوة بين البلدين في المستقبل القريب، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الإدارة الجديد تحمل في جعبتها "مزايا" بديلة، يمكن من خلالها استرضاء الحليف الكندى، وترويضه، أم أن واشنطن على موعد مع مزيد من الخسائر في علاقتها مع أحد أهم حلفائها في دائرتها الإقليمية.
حائط المكسيك.. جرح عميق لم يداويه بايدن
الأمر ربما لا يختلف كثيرا بالنسبة للمكسيك، فالعلاقات توترت بصورة كبيرة خلال حقبة ترامب، بسبب الإجراءات المشددة التي اتخذها على خلفية مسألة استقبال المهاجرين من هناك، وشروعه في بناء حائط ضخم على الحدود بين البلدين، لمنع تسلل مواطنيها إلى الأراضى الأمريكية، في ضوء تنامى معدلات الجريمة، بالإضافة إلى حصولهم على فرص العمل بالولايات المتحدة، على حساب المواطن الأمريكي، ليصبح الحائط، بمثابة حجر عثرة، ليس فقط أمام دخول المهاجرين، وإنما أيضا أمام تطور العلاقات بين البلدين خلال السنوات الأربعة الماضية.
حائط المكسيك
وعلى الرغم من احتجاج الديمقراطيين، والذين يمثلهم بايدن في البيت الأبيض، على مشروع الحائط الذى تبناه ترامب، إلا أن الأمور لم تشهد اختلافا جذريا في المرحلة الراهنة، حيث لم تقدم الولايات المتحدة، منذ يوم التنصيب أية تعهدات بشأن مسألة قبول المهاجرين، أو الحائط المثير للجدل، والذى تمكنت الإدارة السابقة من إنجاز جزء كبير منه.
العودة للمربع الأول.. انعدام الثقة يهيمن على كوبا
بينما لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لكوبا، رغم اختلاف الظروف التاريخية، حيث كانت علاقتها مع الولايات المتحدة متوترة تاريخيا، وتحديدا منذ الحرب الباردة، في ظل ميول قيادتها إلى الفكر السوفيتى الشيوعى إلى الحد الذى دفع واشنطن إلى تمرير محاولة لغزوها، إبان إدارة جون كينيدى، للإطاحة بالنظام الحاكم، في الستينات من القرن الماضى، فيما يعرف بـ"عملية خليج الخنازير"، إلا أنها لم يكتب لها النجاح، إلا أن ثمة تطورا ملحوظا شهدته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والتي كان بايدن يشغل بها منصب نائب الرئيس، حيث أقدمت على تحقيق قدر من التقارب توجته بزيارة رئاسية إلى هافانا، لم تنجح حالة الرفض الشعبى لها في إفسادها.
أوباما فى زيارته لكوبا
إلا أن ترامب أعاد الأمور إلى المربع الأول، عبر لهجته التي اتسمت بالعداء الشديد تجاه كوبا منذ بداية حقبته، مما ساهم في توتر العلاقات الهشة بطبيعتها، وأعاد حالة انعدام الثقة في الجانب الأمريكي لصدارة المشهد الكوبى، مما يضع ضغوطا كبيرة على الإدارة الحالية إذا ما أرادت استعادة قدر من الدفء مع النظام الحاكم في هافانا، وهو الأمر الذى يتخذ فيه بايدن أي خطوة تذكر، مما قد يساهم في تزايد الفجوة بين الجانبين.