وصل الشاعر الفلسطينى محمود درويش، إلى القاهرة فى أوائل فبراير 1971، بعد عام كامل قضاه فى موسكو للدراسة، وفى ختام هذا العام قرر عدم العودة إلى إسرائيل، واختار الإقامة فى القاهرة، حسبما يذكر الناقد رجاء النقاش، فى كتابه «محمود درويش، شاعر الأرض المحتلة».
عقد «درويش» مؤتمرًا صحفيًا، بحضور محمد فائق، وزير الإعلام وقتئذ، فى مبنى الإذاعة والتليفزيون، يوم 11 فبراير 1971، لتوضيح موقفه، وشرحه لأسباب اختياره «الموقع الجديد فى الجبهة التى يحارب فيها».
وأحدث قرار «درويش» دويًا هائلًا، وحسب «النقاش»: «صدرت تعليقات عديدة، خاصة من صحف لبنان ضد موقفه، ونشرت مجلة «الحوادث اللبنانية» صورته على غلاف عددها «26 فبراير، مثل هذا اليوم، 1971»، وكتبت فوق الصورة عنوانًا كبيرًا يقول «ليته يعود إلى إسرائيل»، وتضمن العدد مقالًا بتوقيع «ربيع مطر» ينادى فيه كاتبه أن يعود درويش إلى الأرض المحتلة، ويقول: «يا محمود يا أحلى ابن تفتح له الأمة العربية ذراعيها، لن نحدثك عن مأساة الواقع العربى الذى يوشك أن يعتصرك والذى لا شك أنك أحسست بشواظه، حتى فى أيام المجاملة والترحيب».
ونحن لا ندرى ما هى المشاكل القانونية التى ترتبت على قرارك، ولكنك ما زلت محتفظًا بجنسيتك «المترجمة»، كما تصفها، ومن ثم نقول لك من قلب يحبك ويعتز بك: نحن فى مرحلة العودة والإصرار على البقاء، انتهت وإلى الأبد مرحلة الهجرة، فليتك تعود إلى إسرائيل..إلى السجن، ليتك تعود مهما كان الثمن الذى ستدفعه من حريتك وحتى من فنك وشعرك.. مكانك إلى جانب «الطاحون» حتى لو سجنوك فى الصمت، فصمتك فى فلسطين أبلغ ألف مرة من شعرك فى سوق عكاظ العربى الذى سيقام لك.. عد فقد اخترت وليس لك أن تتراجع..فقد عينت نفسك «إننى مندوب جرح لا يساوم/ علمتنى ضربة الجلاد/أن أمشى على جرحى/ وأمشى.. ثم أمشى وأقاوم».
يتوقع «النقاش» أن «ربيع مطر» هو اسم مستعار للكاتب الفلسطينى غسان كنفانى، غير أن الكاتب الصحفى سيد محمود، فى تناوله لهذه القضية بتفاصيل أكثر فى ملفه الخاص لمجلة الأهرام العربى، «أيام محمود درويش فى القاهرة»، 9 أغسطس 2018، يذكر أن «النقاش» لم يقدم دليلًا على هذا الزعم، واصفًا ما جاء فى «الحوادث» بأنه كان الأشرس فى الحملة ضد محمود درويش، ويؤكد أن «الحوادث» قالت فى تبرير موقفها: «إنها فوجئت بقرار درويش إعلان هجرته لفلسطين ولجوئه إلى القاهرة ليكون أكثر قربًا من فلسطين، بعدما أصبح مشلول الحركة والحرية من ضراوة الكبت والتعصب الإسرائيلى»، وقالت المجلة «إن غلافها «وعليه صورة درويش» كان قد أعد لتصدر به عندما ينعقد المؤتمر الوطنى الفلسطينى فى القاهرة، ويفاجأ العالم بعضوية «درويش» ممثلًا عن عرب فلسطين المحتلة قبل 1948».
علق «درويش» على حالة الهجوم عليه، قائلا، وفقًا لسيد محمود: «لم أكن أتخيل حتى فى أشد لحظات الخيال تحليقًا، أن قصة حياة شاعر ستتحول إلى إحدى القضايا الرئيسية فى حياة العرب، حدث ذلك فى الجاهلية؟.. فهل يراد لنا أن نعود إلى الجاهلية.. هذا هو السؤال».
لم يترك الإعلام المصرى «درويش» وحيدًا فى العراء أمام حملة الهجوم عليه، والسبب كما يذكر سيد محمود «أن انتقاله لمصر كان على نحو ما قرارًا اتخذته الدولة المصرية».. يضيف: «كان واضحًا جدًا أن الإعلام المصرى جند نفسه فى جيش الدفاع عن درويش وقراره..أعادت مجلة «روزاليوسف» فى عددها « 15 مارس 1971» مقالًا نشرته صحيفة «الاتحاد» العربية التى تصدر فى «حيفا»، وعنوانه «محمود درويش لم يرحل»، ويرجح «النقاش» فى كتابه أن كاتب المقال هو أميل حبيبى الذى كان بمثابة الأب الروحى لدرويش حتى خروجه من إسرائيل.
يضيف «سيد محمود»: «كما بدأ الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى المواجهة بمقال نشرته «روزاليوسف» بتاريخ 22 فبراير، 1971 جاء فيه «أنت تعلم يا صديقى أن كل العيون الآن مفتوحة عليك، عيون شعبك العربى فى كل أقطاره وعيون رفاقك فى الأرض المحتلة، وعيون أعدائك أيضًا، وأنت تعلم أيضًا أن الناس الذين طعنوا بما فيه الكفاية، وخدعوا بما فيه الكفاية، يحق لهم أن يشفقوا عليك وعلى أنفسهم من المصير الذى ينتهى إليه فى العادة نضال اللاجئين السياسيين، وهو أن يقبعوا فى ركن مقهى، بل لقد وجهت إليك أسئلة وملاحظات توحى بهذه الشفقة، وربما قرأت فى بعض صحف عواصم عربية أخرى تعليقات تصرح بها».