- «شلتوت» قال إن السنة النبوية المشرفة تلتحق بها صفة «الظنية» فلا يجوز أن نعتمد عليها فى إثبات العقيدة
- «الصعيدى» قال إن الإسلام هو دين الله الخاتم أما الموروث الإسلامى من أحكام فقهية وتفاسير ومذاهب فهو ناتج بشرى يجوز أن نختلف معه
- محمد أبو زهرة أنكر حد الرجم وقال إنه دخيل على الإسلام من اليهودية واستنكر أن يرمى الرسول إنسانا بالحجارة حتى الموت
- الشيخ الصعيد آمن بحرية الاعتقاد وأن يكون للإنسان الحق فى اختيار الدين ولا يكون لغيره الحق فى إكراهه على ما يعتقده بأية وسيلة من وسائل الإكراه
- الإمام شلتوت تبنى قضية التقريب بين المسلمين وغير المسلمين مؤكدا أنه يجب على «رؤوس الأديان» أن يتحدوا فيما توافقوا عليه
تابعنا فى الحلقتين السابقتين، كيف عبر الفقه الإسلامى بعد وفاة رسول الله زمن الخلافة الراشدة ثم زمن تأسيس المذاهب الفقهية وما بعدها حتى وصل إلى مشارف القرن العشرين، وقد اشتعلت مصابيح التجديد على يد شيخ الأزهر حسن العطار ومن بعده محمد عبده ومصطفى عبدالرازق، وقد استخلص الفقهاء الحقيقيون عبر العصور حكمة الشريعة الإسلامية التى تتنوع مصادرها وتختلف بوصلتها بما يحقق منافع الناس ويرسخ صلاح الدنيا والدين، وفى هذه الحلقة سنعرض لأهم الإسهامات الفقهية المصرية التى نمت وتفرعت وقد أثمرت البذور التى وضعها المصلح الأكبر «محمد عبده»، وأصبح فقهاء العصر الحديث أكثر جرأة على النقد وأكثر التزاما بالروح العلمية.
المراغى
شيخ الأزهر الإمام المراغى
ولد الإمام محمد مصطفى محمد عبدالمنعم المراغى، فى محافظة سوهاج، فى ربيع عام 1881م، وصار بعد ذلك أحد أهم أعلام مصر والعالم الإسلامى وأحد أهم من شكلوا قوانينها ومسارها التشريعى والفقهى والوطنى، وشاء له القدر أن يولد لأب يحب العلم والثقافة والتبحر فى شؤون الدين، فورث ابنه هذا الحلم وعمل على تحقيقه، وحينما ظهرت نجابته أرسله أبوه إلى الأزهر ليكمل تعليمه فيه، وفى الأزهر كان لقاؤه بالإمام محمد عبده إمام المصلحين وصاحب المدرسة الفقهية الشهيرة التى تعرف باسم «المدرسة العبدية»، فرأى فى الأستاذ تمسكا بالدين وحرصا على إحياء علومه وتجديد نهضته، وعرف منه أن الله لم يضع الإسلام حجرا فى طريق النهضة بل أساسا لها.
عمل الإمام المراغى فى القضاء بالسودان وقد أسهمت تلك التجربة فى تعميق وعيه بالفقه الإسلامى، وبلورة منهجه الفقهى المتجدد، فها هى قضايا الناس الواقعية بتفاصيلها وجزئياتها وتعقدها تقف وجها لوجه أمام النصوص الفقهية والأحكام المتوارثة، والتى قد اختلفت وتباينت ولم تعد صالحة للتطبيق بعد أن اختلف العصر، وهو ما أثار تلك التجربة فى كتابه «الاجتهاد» الذى دعا فيه إلى الأخذ بما جاء فى جميع المذاهب الإسلامية وجواز الحكم بأكثر من مذهب وعدم الاقتصار على مذهب واحد.
دعا الإمام فى مشواره الفقهى إلى عدم الاقتصار على الالتزام بآراء الأئمة الأربعة، وأنه يجوز أن يأخذ المسلم بأى رأى سليم من أى عالم دين أو إمام مخالف لإمام مذهبه طالما الأدلة سليمة، كما دعا الإمام إلى توحيد الفقه الإسلامى وعدم «التمذهب» الذى قد يضر بالحياة الدينية والدنيوية على حد سواء، كما تبنى الإمام منهج الأئمة الكبار أمثال الغزالى والشاطبى والعز بن عبدالسلام فى اتباع المصلحة، غير أنه قال إنه يجوز أن يأخذ المسلم بالقول الضعيف إذا كان فيه مصلحة من مصالح الأمة، كما دعا إلى ضرورة التثبت عند نقل ما يسمى بالإجماع.
وتبنى الإمام قضية التقريب بين المسلمين وغير المسلمين، مؤكدا أنه يجب على «رؤوس الأديان» أن يتحدوا فيما توافقوا عليه، مرجعا سبب ابتعاد المثقفين عن الدين بأن رجال الدين لم يكونوا راشدين فى هجومهم عليهم، وهو ما تسبب فى جرأة المثقفين على رجال الدين وإضعاف الشعور الدينى العام، ولك أن تتعجب من وجهة نظر الإمام المراغى التى ساقها اعتراضا على ما يسمى بالإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، فقد قال رحمه الله: «إنه كلما حدثت فى العالم فكرة طريفة اجتهد البعض أن يلتمسها فى القرآن، وفرحوا إن استطاعوا الاهتداء إلى إشارة بعيدة إليها، يفعلون هذا فى جميع النظريات المرتبطة بالكون وأسراره، وقواعد الاجتماع والسياسة، ولكن من حقهم أن يفهموا أن المعارف البشرية غير مستقرة، وأنها تتغير ويتجدد بدلا منها معارف أخرى تختلف عنها أو تناقضها، وأنه ليس من الحكمة أن نربط هذه المعارف غير القارة أى غير المستقرة بكتاب الله الثابت الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
شلتوت
الإمام محمود شلتوت.. لسان الحق ومحامى الإسلام
بضراوة كبيرة هاجم الإمام شلتوت أشكال التدين الشكلى التى يتبعها الناس، ومدح فى التدين الذى يراعى الله وتعاليمه وهداه، متبعا قول الله تعالى «اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء»، وفى ذات الوقت يدين الإمام التدين الرمزى الذى يكتفى فيه المسلم بترديد الشهادتين مطلقا لروحه وعقله العنان فى كل شىء وليس له من مرشد إلا الهوى، بل يعتبر الإمام الإلحاد خيرا من هذا التدين الذى قد يغر ضعاف العقول، ويتشارك التدين الصورى الذى ينتهجه البعض الخطر مع التدين الرمزى، وهو ذلك الذى تتبعه طائفة تزعم أن الدين هو حركات الصلاة وتماوت الصيام وهمهمة التسابيح وغيرها من مظاهر خادعة لا تدل على قلب عامر ولا روح خاشعة، فقد كان رحمه الله يوقن أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل، فلا يحتاج الواحد أن يلجأ لبعض التصرفات المتشبهة بمسوح الإيمان، كما لا يحتاج إلى إضافة أشياء ليست من الإسلام فى متنه، وهو الشىء الذى يجده الواحد فى كتب التوحيد التى تقول إن من شروط الإيمان بجانب الإيمان بوجود الله وحدانيته والرسل واليوم الآخر مسائل أخرى مثل رؤية الله بالأبصار وزيادة صفات الله على الذات ومرتكب الكبيرة، وما يكون آخر الزمان من ظهور المهدى والدجال والدابة والدخان ونزول عيسى، فقد كان الإمام يعتبر كل هذه الأشياء من الأشياء المضافة إلى الإسلام وأنها ليست ثابتة ثبوت اليقين، مؤكدا أن «التاريخ العلمى يدل على أن هذه المسائل جرى إليها البحث فى العقائد حين تعددت الفرق وكثرت المذاهب الكلامية فكانت محل اجتهاد بين العلماء كل يرى رأيه فيها يدلى بحجته على ما يرى ملتمسا الوصول إلى ما يلائم العقيدة المتفق عليها فى نظره».
ومثلما كان الإمام شجاعا فى الوطنية والغيرة على الأزهر كان شجاعا فى الفقه وتفهم الدين، ولهذا سار يقول الرأى بعد الرأى ولا يهمه اعتراض المعترضين ولا جدل المتجادلين، فتراه مثلا يقر بأن السنة النبوية المشرفة تلتحق بها صفة «الظنية» من جهتى الورود والدلالة، فلا يجوز أن نعتمد عليها فى إثبات العقيدة، موضحا ذلك بالقول «فقد يكون فى اتصال الحديث برسول الله شبهة فيكون ظنى الورود، وقد يلابس دلالته احتمال فيكون ظنى الدلالة، وقد يجمع فى الأمرين فيكون ظنى الورود والدلالة، ومتى لحقت الظنية الحديث على أى نحو من هذه الثلاثة فلا يمكن أن تثبت به عقيدة يكفر منكرها وإنما يثبت الحديث العقيدة وينهض حجة عليها إذا كان قطعيا فى دلالته ووروده، بما يعنى أنه لا يمكن أن نقر كفر أحد أو إيمانه إلا بما جاء فى القرآن، لأن هذه مسألة خطيرة وغاية فى الحساسية، ويمكن فقط أن نلجأ إلى السنة إذا كانت الأحاديث التى سنعتمد عليها متواترة رواها جميع الرواة وصارت معلومة بالضرورة.
ويمضى الإمام فى آرائه العقلية المتأملة، فيقول إن الإسلام شهد لغطا كبيرا حول ما يسمى بالإجماع، وكان الفقهاء يرددون هذه الجملة ليوهموا الناس أن هذا الإجماع وقع من الجميع، والصحيح أنه «إجماع طائفى أو مذهبى»، وكشف الإمام حيلة هؤلاء قائلا إنهم كانوا يقولون تلك الكلمة ليسجلوا على المخالف لوازم مخالفة المسلمين الشائعة متهمين من يقول بغير ذلك أنه خارج عن الأمة ويقول: وكثيرا ما نراهم يردفون حكاياتهم للإجماع بقولهم «ولا عبرة بمخالفة الشيعة والخوارج أو بمخالفة المعتزلة والجهمية»، ونحو ذلك مما يخيفون به العلماء.. ويؤكد الإمام أنه بهذا الإرهاب الفكرى وخشية أن يتم اتهام الواحد باتباع هذه المذاهب كان العلماء يمتنعون عن إبداء رأيهم فى كثير من المسائل خوفا على سمعتهم الدينية، فوقف العلم وحرمت العقول البحث وحيل بين الأمة وما ينفعها.
ولأن الإمام كان يعرف أن الإسلام لا يكون عائقا أبدا للحياة، فقد أفتى بالعديد من الفتاوى التى كان من شأنها أن تيسر على الناس وتقرب بين الفرقاء، فأفتى مثلا بجواز التعامل مع المصارف المالية وأخذ القروض منها، مؤكدا أن هذا الأمر لا يدخل فى باب الربا الذى كان يحصل عليه المرابى أضعافا مضاعفة، وأن على العلماء أن يتبعوا قاعدة دفع الضرر فى هذا الشأن، كما أفتى بأنه لا القرآن الكريم ولا السنة المطهرة أخبرونا بأن نبى الله عيسى بن مريم سينزل فى آخر الزمان، وأن كل ما قاله القرآن فى هذا الأمر هو أن الله متوفى عيسى عليه السلام ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا، وأن من أنكر أن عيسى رفع بجسده لا يكون منكرا لما ثبت بالدليل القطعى ولا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا يحكم عليه بالردة، كما أفتى الإمام فى سبيل التقريب بين المسلمين بجواز التعبد على مذهب الشيعة الإمامية، وكذلك أفتى الإمام بأن كل ما يقال عن وصف الدابة التى ستخرج آخر الزمان وتكلم الناس غير صحيح وأوصى بتطهير كتب السيرة من الإسرائيليات، وله أيضا فتوى تاريخية يعتبر فيها مسألة إعفاء اللحية أو حلقها من العادات التى يجب على الإنسان أن يساير فيها بيئته ليس أكثر.
واتفاقا مع منهج الإمام الإسلامى الإنسانى يقول إن للمرأة ذات حقوق الرجل وعليها ما عليه ولها ما له، بل إن الإسلام فتح الباب أمامها فى جميع شؤون الحياة، ودمها مساو لدمه، ورغم أن العلماء اختلفوا فى أمر دية المرأة لكنه يرى أن القرآن وهو المصدر التشريعى الأول وضعها فى ذات مكانة الرجل، ولذلك فهى مساوية له حتى فى العقوبات.
عبدالمتعال الصعيدى
الشيخ عبدالمتعال الصعيدى.. الإسلام إنسانيا
من وجهة نظرى فإن الشيخ الرائد عبدالمتعال الصعيدى من أهم وأكبر علماء الإسلام فى تاريخه، لكننا للأسف ضيعناه مثلما ضيعنا تراث الليث بن سعد، ومن عمق المأساة لا يكاد الواحد يعرف عن الشيخ إلا أقل من القليل، فتذكر بعض كتبه الحديثة، أن اسمه عبدالمتعال عبدالوهاب أحمد عبدالهادى الصعيدى، وأنه من علماء الأزهر الشريف، وكان عضوا بمجمع اللغة العربية، ولا تغيب تلك الجملة أبدا عن كلمات التعريف به فتقول: إنه واحد من أصحاب الفكر التجديدى بالأزهر، ومن المنادين بالمنهج الإصلاحى فى التعليم والفكر والتجديد الدينى، ثم تذكر تاريخ ميلاده ومنشأه فتقول إنه ولد فى 7 مارس عام 1894م بكفر النجباء، ويختلف الباحثون فى تاريخ وفاته فيقول البعض إنها حدثت فى 1966 بينما يقول آخرون إنها حدثت فى 1971.
انتمى «الصعيدى» إلى هذه الطائفة من العلماء الذين لم يخشوا فى الله لومة لائم، مصارحين بآرائهم التى ظلموا من أجلها فلم ييأسوا وظلوا على حالهم، يقولون ما يؤمنون به، ويكتبون ما يرونه صالحا، فوسط الاختلافات والتنازعات الدينية الكثيرة، كان من الواجب أن نبحث عن منهج جديد فى دراسة التشريعات الإسلامية ونشأتها، لنفرق كما كان الشيخ يقول بين الإسلام والتراث الإسلامى، فالإسلام هو دين الله الخاتم الذى ارتضى لنا أن يكتمل به إيماننا، وهو دين السماحة والحب والحرية والعقل والتوحيد والرقى، أما الموروث الإسلامى من أحكام فقهية، وتفاسير، ومذاهب، فهو الناتج البشرى عن عملية تأويل الإسلام، بما يناسب العصر الذى تم إنشاء هذا الموروث فيه.
العديد من المفارقات المؤلمة يرصدها «الصعيدى» فى كتابه «المجددون فى الإسلام»، متحسرا على ما آل إليه حال المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها، فيعلن استياءه من مغالاة البعض فى العبادات وتشددهم فيها، حتى يظن الواحد أن الإسلام دين عبادات فحسب، وهو الأمر الذى وصفه الشيخ بأن فاعليه «ابتدعوا رهبانية فى الإسلام»، موضحا أن الإسلام الحقيقى هو ما يصحبه الإنسان فى حياته كلها، فيرى باستنارته العالم، ويضرب الشيخ مثلا باستنارة الصحابى الجليل عمر بن الخطاب فى أمور الدين، معتبرا عمر بن الخطاب من المجددين، لأنه راعى التغيرات الاجتماعية فى أحكامه، معطيا العقل مساحة أكبر فى التعامل مع نصوص القرآن والسنة، ولأن الشيخ كان دائم إعمال العقل، فقد أخذ على الإمام الشافعى قوله «كل قرشى غلب على الخلافة بالسيف، واجتمع عليه الناس، فهو خليفة»، وقال: «إن من يأخذ حقه بالسيف يكون غاصبا، وإجماع الناس عليه بعد ذلك لا يصح أنْ يُسوّغ ما وقع، لأنه يكون ناشئا عن عجزهم»، كما أخذ الشيخ على بعض الأئمة والتابعين آراءهم فى النكاح، حيث قال الإمام سفيان الثورى: «إذا نكح المولى العربية يُفسخ النكاح»، ما يعنى أنه يحرم زواج العربية بالمصرى أو التونسى أو الشامى، لأنه فى نظره «مولى» أى ابن بلد من البلاد المفتوحة، وهو ذات الرأى الذى أقره الإمام أحمد بن حنبل، وهو ما اعتبره الشيخ «عنصرية» لا تتناسب مع تعاليم الإسلام، ولا آيات الكتاب، ولا سيما ما جاء فى سورة الحجرات «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».
آمن الشيخ الصعيدى بحرية الاعتقاد وأن يكون للإنسان الحق فى اختيار الدين، ولا يكون لغيره الحق فى إكراهه على ما يعتقده بأية وسيلة من وسائل الإكراه، وإنما يكون له حق دعوته إليه بالإقناع بدليل العقل، أو بالترغيب فى ثواب الآخرة، والتخويف من عقابها، ويستشهد الشيخ الصعيدى على الحرية الدينية فى الإسلام بالعديد من الآيات مثل: «من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد»، و«ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن»، و«ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم»، و«إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين»، و«ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، و«لا إكراه فى الدين»، و«فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، مؤكدا أن الحديث الذى يستند إليه بعض القائلين بوجود إقامة حد الردة، وهو «من بدل دينه فاقتلوه» يعد من أحاديث الآحاد التى تفيد الظن ولا تفيد اليقين، كما أنه يخالف النص التشريعى الأول فى الإسلام وهو القرآن الكريم، ويخالف ما تواتر عليه من عدم قتل المرتدة، وهو ما يعنى أن قتال المرتد لا يصح إلا إذا حارب المسلمين.
أما فى كتابه «حرية الفكر فى الإسلام»، فقد ذهب الشيخ إلى أن الإسلام يعد أول دين يتيح الحرية المطلقة للإنسان، وقد كفل للمسلمين أن يعارضوا الرسول دون أدنى خوف، وبالتالى فإن التضييق على الناس فى باب الحرية الفكرية لا يتفق وصحيح الإسلام، لأن التعسف فى الحرية هو صناعة بشرية خالصة لا علاقة لها بالدين، فالإسلام لم يغلق باب الاجتهاد على الناس، والمجتهد لا إثم عليه فيما اجتهد فيه ولو أخطأ طريق الصواب، ما دام أنه التزم بالمعايير والضوابط فى اجتهاده.
محمد أبو زهرة
الإمام محمد أبو زهرة.. كتيبة الفقه وعمدة الفقهاء
اشتهر الإمام محمد أبو زهرة بمواقفه الحادة الصارمة وكتاباته الرصينة الواعية، غير مبال بمنصب ولا مال، وللإمام الكثير من المواقف التى كان صارما فيها بل تقليديا، لكن التاريخ حفظ له مقعدا مميزا ضمن بسبب فتواه بإبطال حد الرجم، التى لم يخش فيها هياج العلماء ولا العوام، ومضى ليقول بإبطال حد الرجم وأنه دخيل على الإسلام وأن أساسه يهودى، مستدلا على ذلك بالكتاب والسنة دون أن يخاف ولا يخشى، فقد فاجأ الإمام أبو زهرة الجميع فى مؤتمر كبير يجتمع فيه كثير من علماء المسلمين بأن لديه رأيا كتمه منذ عشرين عاما وخاف أن يلقى الله وهو يكتم ما لديه من علم، فيسأله الله عن هذا، وبالفعل مات الإمام بعد أن قال فتواه بأشهر، وقد قال: إنى أرى أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرها الرسول فى أول الأمر، ثم نسخت بحد الجلد فى سورة النور، ولى على ذلك أدلة ثلاثة: الأول: أن الله تعالى قال: «فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب» والرجم عقوبة لا تنتصف، فثبت أن العذاب فى الآية هو المذكور فى سورة النور، والثانى: ما رواه البخارى فى جامعه الصحيح عن عبدالله بن أوفى، أنه سئل عن الرجم: هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟، فقال: لا أدرى. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التى نسختها. الثالث: أن الحديث الذى اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنا ثم نسخت تلاوته وبقى حكمه أمر لا يقره العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق؟ وما قيل: إنه كان فى صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق. وما إن انتهى الشيخ من كلامه حتى ثار عليه أغلب الحضور فذهب إلى الإمام أحد الحاضرين يناقشه فى الفتوى فقال له: هل معقول أن محمد بن عبدالله الرحمة المهداة يرمى الناس بالحجارة حتى الموت؟ هذه شريعة يهودية، وهى أليق بقساوة اليهود.
على هذا الأساس مضى الإمام فى آرائه وفتاواه، يعمل عقله الممتلىء بالمعرفة الإسلامية غير متهيب من أن يخالف كبار الأئمة إذا ما رأى أن رأيهم لا يستقيم وروح الإسلام، من دون أن يبخسهم حقهم أو يتجرأ عليهم، فبكل أدب واحترام وتقدير وعرفان، خالف الإمام زيد بن على زين العابدين فى رأيه القائل بعدم جواز شراء أهل الذمة للأراضى فى بلاد الإسلام إذا لم تكن تلك الأراضى فى حوزتهم قبل دخول الإسلام، فيشير «أبو زهرة» فى كتابه عن فقه الإمام زيد إلى اعتراضه على ذلك قائلا: إن الذى دفعه إلى هذا القرار هو حرصه على أن تبقى الأراضى وهى أعظم موارد الثروة فى أيدى المسلمين لتكون قوة حربية واقتصادية، وكان ذلك مناسبا لروح العصر، فى إشارة منه إلى أن اختلاف روح العصر يبطل القرار، ويقول الإمام فى كتابه «المجتمع الإسلامى فى الإسلام» إن الإسلام كفل حرية التملك للجميع، وهى من ضمن الحريات التى رعاها الإسلام ودعمها، ومنها أيضا حرية العقيدة، مؤكدا أن القول بأن الإسلام انتشر بالسيف قول باطل، فلا إكراه فى الدين، «وإنما كانت الحرب لأن الملوك كانوا يمنعون الناس من أن يستمعوا لدعوة تجىء إليهم، وخصوصا إذا كانت الدعوة لا تتلاءم مع ما يفرضونه على الناس من تقديس لأشخاصهم واتباع لهم فى الحق والباطل، بينما الشريعة الجديدة تقول لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق».
هكذا يبرز الإمام سماحة الإسلام وعظمته فى كفالة الحرية الشخصية والدينية للجميع، قائلا: إن المسلمين أطلقوا لفظ «ذميين» على أهل الكتاب، لأن لهم عهدا وذمة عند رسول الله، وليس الذميون فقط بل حتى الوثنيون من المجوس، قائلا فى كتابه: المجتمع الإنسانى فى الإسلام أن الدولة الإسلامية أقرت لهم شريعتهم ولم تعترض عليها، وقرر بعض الفقهاء أنه لا يحق لأحد أن يتعرض للمجوسيين الذين يعيشون فى الدولة الإسلامية حتى إذا ما تزوج ابنته أو أمه طالما شريعتهم تسمح بذلك، بل الأكثر من ذلك أن بعض الفقهاء أجازوا لهم الاختصام أمام القضاء الإسلامى، فأى حرية بعد هذه الحرية؟
«إننا فى هذا العصر قد تفرقنا فى السياسة، فتقطعت الأمم الإسلامية فى أقاليم متنازعة، وتوزعتها أرض الله لا جامعة تجمعها ولا رابطة تربطها، وأصبح ولاؤها لغير الله ورسوله، فصار لكل إقليم ولى من أعداء المسلمين»، هذا ما كان يردده الإمام دائما داعيا إلى نبذ التعصب الأعمى بين أبناء الدين الإسلامى، منبها إلى ضرورة أن يتعامل أبناء الدين الإسلامى مع تراثهم بشقيه السنى والشيعى باعتبارهما من الأصول المعترف بها، ومنبها أيضا لخطورة اتباع منهج التكفير الذى أصبح سائدا فى عصره، فيقول إننا «ورثنا فى هذا العصر التفرق المذهبى حتى أخذ بعضنا يكفر الآخر من غير حجة ولا بينة، وصارت للآراء والأفكار عصبية تشبه عصبية الجاهلية، فابن الشيعى شيعى وابن السنى سنى، يتوارث المذهب كما يتوارث الجسم واللون من الأب إلى ابنه، وأصبحت كل طائفة كأنها جنس قائم بذاته، ومن يغير مذهب أبيه الشيعى يكون كمن يغير دينه ويرتد بعد الإيمان، وأهل كل مذهب يحسبون أن مذهبهم تراث لهم فقط وليس تراثا للإسلام كله، وإن اعتبره تراثا للإسلام فإنه يتبع ذلك بأن مذهبه هو الإسلام، وأن ما عداه انحراف لا يؤخذ به وضلال لا يلتفت إليه، وبهذا النفاق السياسى والمذهبى ضاعت القوى وأذلنا أعداؤنا».