نواصل إلقاء الضوء على مشروع الدكتور زكى نجيب محمود (1905- 1993) بأفكاره التنويرية التى مثلت حجر أساس فى القرن العشرين، ونتوقف اليوم مع كتابه "الشرق الفنان".
ويقول الكتاب الذى صدر فى عام 1960 فى مقدمته، تستطيع أن نقول على وجه الإجمال إن فى العالَم طرفَيْن مختلفَيْن من حيث النظرة إلى الوجود؛ طرف منهما يتمثَّل فى الشرق الأقصى: الهند والصين وما جاوَرَهما، ويتمثَّل الآخَر فى الغرب: أوروبا وأمريكا، وبين الطرفين وسطٌ يجمع بين طابعَيْهما؛ هو الشرق الأوسط.
فأمَّا الشَّرقُ الأقصى فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجى ببصيرةٍ تَنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، فيُدرِك ذلك الجوهرَ بحدسٍ مباشِر يَمْزج ذاتَه فى ذاته مزْجًا تفنى معه فرديةُ الفرد لتصبح قطرةً من الخضم الكونى العظيم، ومثل هذه النظرة المعتمِدة على اللمسة الذاتية المباشِرة التى لا تحتاج إلى تعليل وتحليل ومقدمات ونتائج، أو إنْ شئتَ فقُلْ: إنَّ إدراك حقيقة الوجود بما يُشبِه التذوُّق هو ما يُميِّز الفنانَ فى نظره إلى الأشياء. ونحن إذا أخذنا "الفن" بمعناه الواسع، شمل فيما يَشْمله تصوُّفَ المُتصوِّف وخشوعَ المتدين؛ لأنَّ هذه كلها جوانبُ لوقفةٍ واحدة، هى وقفةُ مَن يدرك العالَمَ برُوحه لا بعقله.
وأمَّا الغربُ فطابعه الأصيل العميق هو النظرُ إلى الوجود الخارجى بعقلٍ منطقى تحليلى يقف عند الظواهر مُشاهِدًا لها وهى تَطَّرِد وتَتتابَع على هذه الصورة أو تلك، فيجعل من هذه الاطِّرادات فى الحدوث قوانينَ يستخدمها بعدئذٍ فى استغلالِ الظواهر الطبيعية على النحو الذى يرتضيه، ولا بد لمثلِ هذه النظرة من السَّيْر فى خطواتٍ استدلالية تنتزع النتائجَ الصحيحة من مقدِّماتها الصحيحة، وتلك هى نظرةُ العِلْم.
وهذه التفرقةُ التى تجعل من الشرقى فنانًا يُدرِك الحقيقةَ بذوقه، ومن الغربى عالِمًا يُدرِك الحقائقَ بالمُشاهَدة والتجرِبة والتحليل والتعليل، لا تنفى بطبيعة الحال أن يكون فى الشرق علماء، ولا أن يكون فى الغرب رجالُ فنٍّ ودِين، لكننا نُطلِق القولَ على وجهٍ من التعميم الواسع الذى يُفسِّر بعضَ التفسير ما هو شائعٌ على الألسنة من وصفِ الشرق بالرُّوحانية، ووصفِ الغرب بالمادية.
ولقد التقى الطرفان فى الشرق الأوسط طوالَ عصوره التاريخيَّة، ففى حضاراته القديمة تجاوَرَ الدِّينُ والعِلْم، كما تجاوَرَ الفنُّ والصناعة، ثم شاء الله لهذا الشرق الأوسط أن يكون مَهْبَطًا للديانات المُنزلة جميعًا، فلم يلبث رجالُ الفِكْر فيه أنْ حلُّوا عقائدَهم الدينية هذه بحيث أقاموها على أُسُس عقلية، كما هى الحال عند فلاسفة المسلمين، وهكذا جعل أهل الشرق الأوسط ينظرون إلى الوجود بالنظرتين معًا: بالنظرة الرُّوحانية — التى هى فى صميمها نظرةُ الفنان — التى تُميِّز وحدها بلادَ الشرق الأقصى، وبالنظرة العقلية المنطقية التى تُحلِّل وتُعلِّل وتَستدِل، وهى النظرة التى تُميِّز وحدها بلادَ الغرب.
تلك هى الفكرة الرئيسية التى بسطْتُها فى هذه الرسالة الصغيرة التى جعلتُها أقربَ إلى السَّمَر أَسمُرُ به مع القرَّاء، منها إلى بحثٍ علمى تُذكَر فيه المراجعُ والأسانيد.