- الكتابة متعة ذاتية وتعلمت من نجيب محفوظ نقل المتعة للقارئ
- لدى مجموعة من العناصر تلازمنى عند الكتابة وأحب أشرف الشاى بالقرنفل
- قررت البقاء فى دمياط لأن جذورى هناك لكن القاهرة تظل العاصمة المضيئة
- أنا محترف وحين أكتب فى جنس أدبى محدد التزم بمعايير جمالية
- كتبت 65 قصة فى عزلة كورونا سوف ينشروا فى 3 مجموعات قصصية
- أتمنى ألا أتوقف عن الكتابة بسبب ظروف صحية
كاتب مصرى غزير الإنتاج، دؤوب، له نشاطه الأدبى الواسع، لم يسع للهجرة إلى القاهرة ولكنه تمكن من جعل المقهى فى مدينته نقطة جذب للكتاب والفنانين من مختلف الأجيال: رجالا ونساء، رغم بدايته الشعرية القوية فقد انعطف فجأة للسرد حيث قدم خلال عشرين عاما 19 مجموعة قصصية، أنه القاص والروائى الكبير سمير الفيل.
طوى "الفيل" أوراق سبعين عاما من العمر، وخمسين عاما من الكتابة الجادة المستمرة دون أن يشكو بعده عن العاصمة، فمكانه الذى حدده منذ البداية على مبعدة 15 كيلو مترا من البحر المتوسط، مدينة دمياط، عن أدبه ورحلته مع الكتابة طوال العقود الماضية كان لنا هذا لقاء مع الكاتب سمير الفيل، الذى يتسم بالصراحة والصدق والنفس الحلو فى استقبال شمس كل يوم جديد.
- أتمت منذ أيام عامك السبعين.. كيف ترى الحياة بعد هذا العمر؟
ـ سؤال إشكالى، فالحياة بطبيعتها مراوغة، ولا يمكن أن تمضى على وتيرة واحدة، هى مسيرة تتزاحم فيها الأحداث، بعضها يثير البهجة وهو الأقل، والغالب فيها هو كم الأحزان المتراكمة التى تحيط بالكائن البشرى فتثقله بمجموعة هائلة من الانكسارات، بعضها يعصف بالروح، فيما بعضها يزلزل الجسد، وتبقى النفس الإنسانية قادرة أحيانا على استيعاب ما فى الحياة من تناقضات.
سعيت فى تجاربى القصصية أن أغوص نحو الأعماق التى لا تُرى لأكشف عما يعترى الذات من عثرات وانكسارات وهزائم مثيرة للشفقة أو الحنق أو المرارة بينما لا أخفى مطلقا ما قد يكون باعثا للفرح والسكينة والطمأنينة، ومساحتها تتعرض للتقلص والانكماش.
بطولة الإنسان أيا كان معتقده أو مذهبه السياسى أو الدينى هو أنه يعيش باستمرار تحت تلك الضغوط، وعليه أن يكتشف قوانين الحياة وحكمة الكون وهى مهمة صعبة لكنها فرضت علينا، هناك من تكون إرادته هشة فيسقط فى التجربة وهناك من يتمكن من فك الشفرة السحرية فيقبل الأضداد، ويمنح ذاته مساحة للبوح والتأويل والمساهمة فى وضع إشارة ما على امتداد المسيرة الطويلة.
شخصيا أفهم الحياة بعد السبعين بأقل قدر من الغرور، واتقبل تحولاتها، واعترف بالضعف الإنسانى ومن يمتلك نبل مواجهة ذاته بضعفه أو قوته حسب الحالة التى يمر بها.
أذكر أننى كنت أسير يوما فى شوارع دمياط مع الروائى الفذ صبرى موسى، سألته عن معنى الحياة، وضع يده على كتفى وسكت قليلا ثم قال بقدر التفهم: فى كل مرحلة من مراحل الحياة أهدافها وطرائق السير فيها غير أن الجوهر لا يتغير، رغم كل مصاعب الحياة ففيها جانب مشرق، طيع، جميل: قدرة الخير على تنحية الشر باستمرار، وإلا كنا كائنات منقرضة!
- هل تعتقد أنك ضيعت عمرك فى الكتابة؟
أتصور العكس. جعلت الكتابة مثار دهشة وفرح ومتعة ذاتية، وقد تعلمت من الكاتب العظيم نجيب محفوظ أن أنقل المتعة للقارئ، وأن أعبر بصدق وأمانة عن الوضعية الإنسانية التى تتعرض دائما لضغوط اقتصادية واجتماعية لكنها لا ترضخ لها، إنها تحاول طيلة الوقت أن تعبر الأزمات لتقتنص الفرح أو لتحقق الحلم الدائم فى الحرية والانطلاق وتكسير الثوابت التى تحبط الإنسان وتقلل من إمكانياته فى مقاومة العثرات.
أنا روح قلقة غير أن الله حبانى بحبى الحياة وبسعيى الدؤوب لمعالجة الواقع والكتابة عنه، ليس من مقعد المتفرج بل من قلب الحياة نفسها، لقد نزلت إلى سوق العمل وعمرى خمس سنوات ولما كان أبى قد مات وأنا فى سنتى الأولى فقد كان نزولى للعمل مبكرًا أمرًا حتميا لكن لم أشعر بأى نوع من أنواع القهر أو اليتم، فقد كان العمل نفسه مجالا للراحة والفرح حيث نذهب كل جمعة فى لنش لمصيف رأس البر فنعوم فى لجة البحر ونجمع الأصداف ونأكل فطير "دعدور" ونركب الطفطف ونردد وراء العم "جو" صيحات فرحة، هذا هو الواقع وقد سجلته فى مجموعة "مكابدات الطفولة والصبا" كما تردد أيضا فى مجموعتى "هوا بحرى".
- هل لدى سمير الفيل طقوسا خاصة عند الكتابة؟
هى مجموعة من العناصر تلازمنى عند الكتابة: أحضر كوب شاى ساخن جدًا بالقرنفل، وأرشف أول رشفة ثم أتركه ليبرد ويظل معى حتى انتهاء النص، أكتب فى وقت لا يتواجد أحد بالبيت، أو فى غرفة مغلقة لكن باب بلكونتها يطل على الشارع الرئيسى، تاركا فسحة زرقاء تعلن عن قطعة من السماء. أيام الكتابة على الأوراق كان بقلم رصاص ومرة واحدة ثم يكون التصويب بعد ذلك بقلم مغاير. أحرص على أن يكون قرب المكتب مزهرية بها وردة بيضاء من القرنفل.
جربت أن أكتب على المقهى ولم أنجح فى ذلك كثيرًا، كما كتبت فى كازينوهات تطل على البحر، وأحيانا فى حدائق عامة. المهم أن يكون مزاجى معتدلا ولا يوجد ما يعكره.
بعد تعرفى على الكمبيوتر صارت كتاباتى عليه مباشرة وهو ما حقق لى عنصر السرعة والإنجاز، فمن الممكن كتابة مجموعة قصصية خلال شهر أو شهرين، وربما كان التعامل مع الكمبيوتر يخلو من الحميمية لكننى أتصور أن الجانبين مكملان بعضهما البعض: كتابة الورق وكتابة الإلكتروني.
مرة عرض على مخرج كتابة مجموعة أشعار فى سياق مسرحية درامية فلما لامست مفاتيح الكمبيوتر لم تمنحنى ما أريد فعدت للورق، وكانت نتيجة مذهلة.
- عشت حياتك فى دمياط.. ما سحرها ولماذا لم تغوك القاهرة؟
أنا أسير الأمكنة، لا الشخصيات، لذلك أحببت شوارع وأزقة وميادين دمياط، ولما كنت قد تقلبت فى مهنها المختلفة من صبى "كرينة" ـ تصنع من سعف النخيل لحشو الصالونات ـ إلى ورش النجارين ثم تحولى إلى محال صناعة الاحذية وبيعها فقد ارتبط ذلك بعوالم هذه المهن وبالتالى فقد عشت مرتبطا بالتقاليد والأعراف الشعبية من كون" المصلحة" مقدمة على ما سواها، وعرفت مفردات: الزار، وطقوس ميلاد، ومسيرات الصوفية، ومدائح الرسول، وترتيل الجنائز وفرق الموسيقى فى أكشاك بالقرب من النوافير "الفسقيات" الرخامية.. لقد عشت حياة خصيبة جدا وانعكس ذلك على كتاباتي.
لم أفكر فى الذهاب للقاهرة لأسباب مختلفة منها أننى اتخذت قرارًا مبكرًا بالبقاء فى مدينتى وعدم مغادرتى لها لأننى تصورت أن جذورى فى هذا المكان ـ الذى شهد قراءاتى الأولى لتشيخوف وديستوفيسكى والبير كامى وسارتر وبالطبع محمد ديب ومالك حداد ويحيى حقي، ويوسف إدريس ـ ممتدة حتى العمق، كل هذا تحقق وأنا أعمل شابا فى حوانيت مختلفة بالمدينة، لكن تظل القاهرة هى العاصمة المضيئة التى نزورها من وقت لآخر للقاء أصدقاء لنا والتمتع بمعارضها الفنية ولقاء كتابها وفنانيها الكبار، ومن الغريب أننى زرت أسوان والأقصر قبل القاهرة (سنة 1969) وفتنت بالحضارة الفرعونية العظيمة.
- هناك بعض المهن يرى أصحابها أنها تؤثر سلبا على كتابتهم الإبداعية.. إلى أى مدى أثرت عليك مهنة التدريس؟
أحببت مهنة التدريس ولقد كان من توفيق الله أن أحصل على المركز الأول فعينت بمدرسة اخترتها بنفسى بمدينة دمياط، فيما ذهبت دفعتى بالكامل للعمل بمدينتى البدرشين والعياط بالجيزة، وكنت مميزًا جدًا فى التدريس بالصف الأول حيت دروس القراءة فى الحديقة، أو المنحل، وقمت بزيارات مع طلابى للقرى والملاحات وسواحل بحيرة المنزلة وكنا نركب عربات الكارو لاكتشف مع طلابى ملامح بلدنا، وكونت فرقة للكوارل بفصلى ومن طلابى فنانان مميزان: الموزع محمد زقزوق، والملحن خالد زاهر. إذن لقد كان لنجاحى المهنى صداه الطيب فى مشوار الكتابة خاصة مع محافظين دعموا العمل الثقافى ومنهم: صلاح مجاهد، والدكتور احمد جويلي، والدكتور عبد العظيم وزير، رحمهم الله.
- كتبت الرواية والشعر والقصة والنقد كما كتبت عن الحرب وللأطفال.. أى الألوان السابقة استهواك أكثر وأكثرهم إعجابا لدى القراء؟
بمعنى ما، أنا محترف، فحين أكتب فى جنس أدبى محدد التزم بمعايير جمالية وفكرية مستقرة، لا أتخطاها إلا للتجويد والتجريب. بدأت شاعرا واعدا فى ظل حرب الاستنزاف (1969ـ 1970) ثم كتبت الرواية (رجال وشظايا) لكننى أعتقد أن تجربتى مع القصة القصيرة هى الأقرب إلى نفسى وخلال عشرين عما انجزت 19 مجموعة قصصية، كان أحدثها ثلاث مجموعات متتالية:" حذاء بنفسجى بشرائط ذهبية"، "فك الضفيرة"، "ليمون مر".
فى مدينتى فضلنى الجمهور شاعرًا، فإذا ما غادرتها كان السرد هو صاحب الإغواء الأخير.
- قلت إن جائحة كورونا منحت الكتاب والمثقفين فرصة وأفقا للتأمل خلال شهور الحظر.. كيف استثمر سمير الفيل أوقات الحظر وهل نرى لك عملا عن الجائحة مستقبلا؟
منذ العام 2011 حولت المقهى إلى جلسة يومية لقراءة النصوص القصصية والشعرية وقراءات نقدية وتجارب للترجمة، لكن "العزلة" جعلتنى ألتزم بالبيت فرتبت مكتبتى الفوضوية، وكتبت خمسة وستين قصة قصيرة توزعت على ثلاث مجموعات ستصدر تباعا، وقد وفر لى وقت الحظر، وتأمل العالم من خلال شرفة البيت وسطحه الرغبة فى التجريب والمناورة، وهو ما أمتعنى شخصيا فصرت قادرا على ضرب سقف التوقع، وفى كل كتابة جميلة نوع من اللعب الفنى والمغامرة اللغوية والتعامل مع الشخصيات بفهم ووعى جمالى خالص.
- ما الأمنية التى لم تتحقق فى مسيرة سمير الفيل والأمل الذى لا تزال تتمناه؟
أصبت فى عام 2011 بانفصال شبكي، ونتج عن ذلك إجهاد شديد فى القراءة وهو ما انعكس على حجم قراءاتى فتقلصت وأتمنى أن أفوت الفرصة على "السكر" و"الضغط" فلا يصيباننى بضرر بالغ، ما زلت أحرص على الكتابة فى ظل ظروف صحية قاسية، سوف يكون مؤلما أن أتوقف عن الكتابة لأسباب خارجة عن الإرادة كتضعضع الصحة، وأنا منخرط بشكل كبير فى ربط الأدب بقضايا الحياة وهو ما حققته حين انشأت مجموعة "أدباء ضد التلوث" فى محاربة الصناعات السوداء بمحافظتي.
لا يوجد عندى آمال مؤجلة، فقط أتمنى أن ينهض طليعة الكتاب بدورهم الجسور لكشف مناطق الجهل والارتماء على عتبات الماضي، كما اتطلع لأن تنتشر الكتب العلمية، وأن يسود العدل الاجتماعى البلاد.
الفقر المادى والعطب الروحي، واستيلاء الخرافة على أذهان بنى شعبنا أمور تشعرنى بالمحنة لكن مقاومة ذلك رغم صعوبته أمر حتمى وضروري، ويتسق مع صيرورة الحياة.