قام الاحتلال الإنجليزى بتوسيع نطاقه العسكرى لمواجهة ثورة المصريين التى انطلقت شرارتها، يوم 9 مارس 1919، وتخللتها أعمال سلب ونهب وتدمير، فى الأيام التالية لبدايتها، وكانت عمليات إتلاف وقطع طرق السكة الحديدية أبرز صورها، بالإضافة إلى زحف المتظاهرين على بعض مراكز البوليس وطردهم للموظفين منها والاستيلاء عليها، وكانت مديرية محافظة القليوبية، بحكم قربها من القاهرة من المديريات «المحافظات»، التى تعد من أبرز المناطق التى شهدت هذه الأعمال، بينما كانت تشهد «زفتى» حدثًا فريدًا، وهو إعلانها جمهورية مستقلة.
يذكر عبدالرحمن فهمى، قائد التنظيم السرى للثورة فى الجزء الأول من مذكراته «يوميات مصر السياسية»، أنه فى يوم 19 مارس 1919 صدر بلاغًا من القائد العام نصه: «حدث تلف عظيم فى خطوط السكة الحديدية والتلغرافات فى أماكن مختلفة من مديريات القليوبية، وهجم الرعاع فى أحد الأماكن على فصيلة صغيرة من الجنود فأطلق هؤلاء النار أولًا فى الهواء، ولكنهم اضطروا بعد ذلك إلى إطلاق النيران على الرعاع فقتلوا منهم ستة، وقتل فى «طوخ» و«قها» خمسة من المشاغبين بنيران البنادق، وقبض فى بنها على 57 شخصًا وتم استرداد كمية من الأمتعة المسروقة، وساعد الأهالى فى قها على حل أجزاء طيارة كانت أكرهت على النزول على الأرض وتحطمت، وتم شحنها فى قطار البضاعة».
فى يوم 22 مارس، مثل هذا اليوم، 1919 صدر بلاغًا آخر، لكنه يتحدث عن «السكينة التامة التى تسود الآن مديرية القليوبية، والسكينة التى تستتب كذلك فى المديريات الأكثر بعدًا.. قال البلاغ: «قبض فى طوخ على سبعين شخصًا ممن كانت لهم يد فى الاضطرابات، وعلى 120 شخصًا فى بنها، وعلى ثلاثين شخصًا تقريبًا فى قليوب، فى حين يقبض على كثيرين غيرهم، واسترد رجال البوليس والخفراء كمية كبيرة من الأمتعة المسروقة، وقام رجال البوليس فى الأرياف بواجباتهم فى أحوال تنطوى على التحرش والمخاطرة الشديدين بثبات وحزم عظيمين».
يعطى البلاغ صورة عن المديريات الأخرى، ويذكر: «أشد القلاقل التى نذكرها اليوم ما وقع فى مركزى دسوق وكفر الشيخ شمال الغربية، حيث وردت الأنباء بوقوع حوادث جديدة من أعمال النهب فى الحقول وسرقة المواشى وإضرام النار عمدًا، وأخذ الفلاحون فى الجهات الواقعة جنوبى القاهرة فى كثير من الأحوال يعودون إلى أعمالهم الأصلية، ولكن القرى التى اشتهرت بصفة خاصة فى حوادث الاعتداء الأخيرة معروفة جيدًا، ووصلت أنباء رسمية من الجهات الواقعة فى جنوب المنيا، ومنها يؤخذ أنه وقعت قلاقل فى جهات مختلفة فى جنوب القطر، ولكنها كانت بالإجمال أقل شدة من الحوادث التى وقعت بين المنيا والقاهرة.
بدأت الأنباء تصل القاهرة فى هذه الليلة «22 مارس 1919»، عن «جمهورية زفتى» والتى أصبحت واقعًا فى اليوم التالى «23 مارس»، حيث قام أهالى زفتى بتشكيل لجنة تديرها، حسبما يذكر الشيخ عبدالوهاب النجار، فى كتابه «الأيام الحمراء» والذى يشمل يومياته عن أحداث الثورة، وقام الدكتور أحمد زكريا الشلق بدراسته.. يقول النجار: «فى هذه الليلة وقفت على نشرة صدرت بزفتى تتضمن ما حصل فيها من قيام الأهالى بتشكيل لجنة من أناس عينت أسماؤهم بها، وأنهم أخذوا على عاقتهم أن يكونوا المرجع الأعلى للأمور الإدارية، وأنهم قرروا نقل مأمور مركزهم إسماعيل أفندى حمد إلى ميت غمر، وأتوا بمأمور ميت غمر ليحل محله، وأن الأمر والنهى راجع إلى تلك اللجنة، وبعبارة أوضح أنهم استقلوا بالحكم وسلخوا مركزهم عن الحكومة المصرية وصيروه حكومة تحت إشرافهم، ومن الجرأة أن العريضة مذيلة بإمضاء وأسماء تلك اللجنة».
كان أبطال الحدث شقيقين هما «يوسف الجندى» و«عوض الجندى» وفقًا للكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين، فى كتابه «أيام لها تاريخ»، مضيفًا أنه كان ليوسف مكتب محاماة فى «ميت غمر» بمحافظة الدقهلية، بينما لعوض مكتب فى «زفتى»، ويفصل النيل بينهما، وكان الشقيقان معروفين بين صفوف الحركة الوطنية بالقاهرة، وحين انفجرت الثورة ويوسف فى زفتى، فإن أنظار القرويين اتجهت إليه، فقرر أن تعلن زفتى وميت غمر استقلالهما، وأعلن عن تشكيل لجنة للثورة من بعض الأعيان والأفندية والتجار الصغار من بينهم عوض الكفراوى، الشيخ مصطفى عمايم، إبراهيم خير الدين، أدمون بردا، محمد السيد، محمود حسن، واتخذت لجنة الثورة مقرًا لها فى الدور الثانى من مقهى يملكه يونانى عجوز اسمه «قهو مستوكلى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة