"الهوية العربية" عنوان يبدو ملائما للرسالة التى حملتها جامعة الدول العربية، منذ تأسيسها، قبل 76 عاما، حيث كان الحفاظ على الهوية بمثابة أحد أهم أهدافها، عبر العديد من الأبعاد، ربما أبرزها ترسيخ اللغة العربية، باعتبارها أقوى الروابط التى تجمع بين الدول الأعضاء فى الجامعة، خاصة وأن الاشتراك فى اللغة يعكس تقاربا ثقافيا وفكريا ومجتمعيا، مما يخلق قدرا كبيرا من التقارب الشعبى، يساهم بدوره فى تجاوز الأبعاد الخلافية المرتبطة بلغة السياسة، التى تتعرض، بحكم طبيعتها "المصلحية" للكثير من الاختلافات، تجاه العديد من القضايا الدولية.
ولعل الأهمية الكبيرة التى تحظى بها اللغة العربية، باعتبارها أحد أهم الأسس التى قامت عليها الجامعة العربية، منذ نشأتها، دفعت نحو تزامن، يبدو مقصودا بين الاحتفال بذكرى تأسيسها الـ76، والذى يوافق يوم 22 مارس من كل عام، ومؤتمر حول أهمية اللغة، بعنوان "اللغة العربية أمانة قومية وضرورة عالمية"، وهو ما يعكس إلى الأولوية الكبيرة للغة فى المرحلة الحالية، فى ظل مستجدات معرفية وتكنولوجية، وبينما تمتد إلى العديد من الجوانب السياسية والاقتصادية الأخرى، أدت إلى إهمالها وتهميشها بصورة كبيرة.
الجامعة العربية فى ذكرى تأسيسها الـ76
الاهتمام باللغة العربية من قبل الجامعة، لا يقتصر على إحياء ذكرى تأسيسها، كما هو الحال فى المؤتمر الذى سيعقد يوم الاثنين، وإنما يمتد إلى العديد من الجوانب والفعاليات الأخرى، منها على سبيل المثال الاحتفال السنوى بـ"اليوم العالمى للغة العربية"، والذى يوافق 18 ديسمبر من كل عام، بالإضافة إلى تدشين الاستراتيجية العربية لتمكين اللغة العربية، والتى تم إقرارها فى مؤتمر وزراء الثقافة العرب فى أكتوبر 2018.
من جانبها، قالت الأمين العام المساعد للشئون الاجتماعية هيفاء أبو غزالة، أن اللغة العربية قد عانت- ومازالت تعاني- من التهميش والإهمال، حتى بين أبنائها، وهذا يدعو إلى ضرورة الإسراع لإنقاذ لغتنا الجميلة، والعمل على نشرها بين الناطقين بغيرها، وإذا كانت اللغة العربية إحدى ركائز الوجود العربى، وضمانة الهوية والخصوصية العربية، والدرع الواقية من الاستيلاب الثقافى والفكرى فى ظل العولمة، لذا يجب علينا أن نحافظ عليها، ونعمل على الارتقاء بها، وان تنال نصيباً وطنياً يفوق ما يمنح فى مدارسنا وجامعاتنا ووسائل إعلامنا.
السفيرة هيفاء أبو غزالة
ويعد الحديث عن مسألة الخصوصية العربية، من أهم الأبعاد التى تميز عمل الجامعة، إذا ما قورنت بالعديد من المنظمات الإقليمية الأخرى، والتى دائما ما يميزها "البعد الجغرافى"، على غرار المنظمات الإقليمية، كالاتحاد الأوروبى والآسيان، وغيرهما، وهى منظمات تشترك دولها فى حدود "صماء"، إلا أنها تتباعد بحكم الثقافة والتاريخ، وهو ما يخلق فى الكثير من الأحيان، رغم التوافقات السياسية، قدرا مما يمكن تسميته بـ"التنافر الشعبوى"، على عكس الجامعة العربية، والتى تبقى "الهوية" بكل أبعادها المشترك الأهم والأساسى، بين شعوبها، والذى يقوم عليه عملها، وليست الجغرافيا "المجردة".
فإذا نظرنا، على سبيل المثال، لنموذج الاتحاد الأوروبى، ربما نجد أن ثمة توافق كبير، دفع إلى التوحد فى العديد من الجوانب السياسية والاقتصادية، أبرزها تدشين عملة موحدة "اليورو" فى التسعينات من القرن الماضى، والتى اعتبرها المتابعون بمثابة نقلة كبيرة فى تاريخ التكتل القارى الأبرز، بالإضافة إلى العديد من المواقف السياسية الموحدة، تجاه مختلف القضايا الدولية، إلا أن ثمة حالة من الاحتقان الشعبى جراء التخلى عن الخصوصية الثقافية والجغرافية التى تحظى بها كل دولة على حدة، وهو ما يجد جذوره فى اختلاف اللغات بين الشعوب، وهو ما يتجلى فى حالة الرفض الكبير من قبل الشعوب الأوروبية لسياسة الانفتاح على المهاجرين، ناهيك على التاريخ الصراعى بين القوى الاستعمارية فى القارة العجوز.
غياب المشتركات الشعبية، بين دول الكيان الأوروبى الموحد، بعيدا عن التوافقات السياسية المجردة، ربما كان أبرز العوامل التى دفعت بريطانيا نحو الانفصال، بعد سنوات من رفضها لاعتماد "اليورو" بديلا لعملتها المحلية "الجنيه الإسترلينى"، وذلك تمسكا بخصوصيتها، بينما وجدت فيه تيارات اليمين الأوروبى سبيلا لزيادة شعبيتها فى العديد من دول "أوروبا الموحدة"، عبر خطابها الشعبوى، القائم على مناوئة سياسات الحدود المفتوحة، وتمسكها بتفردها الثقافى، والذى تمثل اللغة جزءً لا يتجزأ منه.
وهنا يمكن تفسير المعارك التى خاضتها العديد من القوى الإقليمية، لتجريد الجامعة العربية من أحد أهم نقاط القوة لديها، وهى هويتها العربية، حيث سعت بعضها إلى إطلاق دعوات مباشرة، لتغييرها، عبر إطلاق مصطلحات دينية، على غرار "الجامعة الإسلامية"، وهو ما يحمل فى طياته محاولة صريحة لتقويض المحور الذى قامت عليه أحد أعرق المنظمات الإقليمية فى العالم، لصالح الحصول على مزيد من النفوذ والهيمنة، على حساب القوى العربية الرئيسة فى منطقة الشرق الأوسط، وذلك باستخدام مصطلحات من شأنها دغدغة المشاعر عبر تصدير الدين على حساب اللغة.
ولذلك يمثل تمسك الجامعة العربية بتصدير "عامل اللغة" باعتباره أحد أبرز أولويات العمل بها، إدراكا واسعا من قبل إدارتها الحالية، بأهمية "الهوية العربية" كأحد أهم أدواتها، التى ربما لا تحظى بها العديد من المنظمات الإقليمية الأخرى، والتى قد تتفوق فى إمكاناتها الاقتصادية، وما تحصل عليه من مزايا سياسية كبيرة، على المستوى الدولى، لتصبح اللغة واحدة من أهم عوامل البقاء التى يعول عليها الكيان العربى المشترك.