حين تقع عيناك للوهلة الأولى على ملامح "نسمة" البريئة الطفولية، وتسمع صوتها الرقيق تظن أنك أمام فتاة رقيقة لم تواجه من مصاعب الحياة شيئًا على الإطلاق، لتتذكر نصيحة الأجداد: "لا تصدق كل ما تراه"، فحياة هذه الشابة الثلاثينية كانت حافلة بالأحداث والتحديات الصعبة منذ أكثر من 18 عامًا، وتكتشف حين تقترب أكثر أن لها قصة كفاح مريرة، حيث هجرها زوجها منذ أكثر من 7 سنوات وترك لها 3 أطفال، فلم تستسلم وقررت أن تعيش الحياة بحلوها ومرها ورفعت شعار "الرزق يحب الخفية".
تعيش “نسمة” في مركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية وحدها مع بناتها الثلاث، الوالدان توفيا والإخوة كل منهم يعيش في مكان آخر، لا أحد يتحمل المسئولية معها سوى أولادها أنفسهم، تقول الأم لـ"اليوم السابع": "رفعت قضية خلع على زوجي وخلعته، فمنذ أن تزوجنا وهو لا يتحمل المسئولية ويتنصل منها في أبسط الأمور، فكان الأفضل لي ولأطفالي أن أركز معهم فقط، لجأت للشغل في أكثر من شغلانة، لعدم وجود مصدر رزق لي، فبدأت في الأكل البيتي، وأنشأت صفحة على موقع الفيس بوك، وأضفت أهالي مركز ديرب نجم، كى أكون أطول وقت ممكن مع أطفالي، خاصة أنهم كانوا في سن صغيرة".
لم يكف الأكل البيتي متطلبات البيت، فلجأت الأم إلى عمل إضافي توسمت فيه طوق النجاة، انتهزت "نسمة" كونها تعرف فن التصوير، ففكرت في أن تكون مصورة للأفراح، ولكن رغم نجاحها في تلك المهنة إلا أن نظرات الجميع لم ترحمها داخل مجتمعها الريفي، فكان معظم الحضور يركزون مع المصورة ويتركون العروسة، إلى جانب أن الأفراح لم تكن بالشكل الدائم، فقررت أن تعمل في الدعاية للمنتجات، بالاتفاق مع أصحاب المحلات التجارية، لنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن للأسف كان الدخل بسيطا.
تتذكر "نسمة" تلك اللحظة التي كانت تجلس فيها مع جارتها، لتفضفض لها عن ضائقتها المالية، وأثناء الحديث تقترح على صديقتها أن تؤجر منها سيارتها لتنقل الفتيات وتوصلهم داخل بلدتها، خاصة أن موديل السيارة قديم، ودائمًا تعطل ولا فائدة منها، فردت عليها جارتها وقالت لها: "اشتريها مني وسددى ثمنها براحتك"، وعلى الفور تمت البيعة، وذاع صيت "نسمة" فى توصيل الفتيات داخل ديرب نجم، ونجح المشروع الذى ساعد الأم على الإعانة في المعيشة.
تقول نسمة: "العربية هي إيدى ورجلي وأهم حاجة في حياتى، بوصل بها البنات وأهاليهم بيستأمنوني عليهم، وبوصل بها طلبات للى عايز ينقل حاجة من مكان لمكان، وكمان بشترى بها طلبات وخامات الشغل لأصحاب الأفران والمطاعم، وأدينى برزق، بس الشيء الوحيد اللي بيعوقنى إن العربية على طول عطلانة، عشان موديلها قديم وما قدرش أطلع بها بره البلد لتعطل منى، وعشان كده جاتني فكرة تعليم البنات السواقة، والحمد لله الدنيا ماشية كويس".
"القفة أم ودنين يشلوها اثنين"، من الأمثال الشعبية المصرية التي تربينا عليها جميعنا، ولكن في قصتنا القفة تحملها "نسمة" وحدها فقط، الأم لثلاثة أطفال "على وسلمى" توأم في الصف الأول الإعدادى، والصغيرة "ساندى" ذات الـ7 سنوات، تقول "الأم" المكافحة: الحمل ثقيل عليا حاسة إن أنا لوحدى، وبطولي.. اليوم اللي بتعب فيه وممكن اقعد وانزلش اشتغل، بيجى عليا على عيالي بالسلب، ما قدرش اتحمل إن أنا مش قادرة أجيب قرش لعيالي، لأن أنا رزقي يوم بيومه، لو قعدت هيعيشوا منين، أنا عصب البيت ومافيش بديل، لا أبوهم بيسأل ولا أهله ولا حد هنعيش إزاي، رموا المسئولية عليا".
وتابعت نسمة: "هدفى فى الدنيا هو تربية أولادى، مش بفكر في أى شيء تاني، حاسة انى كبرت من كتر المسئولية اللي عليا، ساعات كتير جدًا لازم أكون راجل في قراراتي مع ولادى وفى أسلوبي مع الناس في الشارع، المسئولية فرضت عليا كده، فيه ساعات كتير بيأس والدنيا تسود وقطر الحياة كله بيمر قدامي، وأقول خلاص مع أول راجل هيتقدم هوافق، لكن برجع على طول وأقول أفكر نفسي بالحمل الثقيل، وآدى الأيام بتعدى، والأزمات بتمر، أنا ماينفعش أضعف ولا اتكسر".
وأنهت الأم حديثها، قائلة: "لحظات السعادة لما أشوف ولادى مبسوطين، والحمد لله أنا راضية جدا عن نفسي وعن حياتي؛ لأنه مش بإيدى ده قدر ربنا عليا، نفسي أشوفهم حاجة حلوة وكويسة، والناس تقول عرفت أربي طلعت راجل وبنات بـ100 راجل".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة