كان عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، على موعد لتسجيل حديث إذاعى فى إذاعة صوت العرب، يوم 6 مارس، مثل هذا اليوم، 1956، لكن مرض مفاجئ منعه، ما أدى إلى أزمة مع الحكومة البريطانية، يكشف عنها الإذاعى الشهير أحمد سعيد، أول رئيس لإذاعة صوت العرب من 1953 إلى 1967، وذلك فى مذكراته غير المنشورة.
كانت «صوت العرب» وقتئذ تقود، إعلاميًا، معارك التحرر العربى، ووصلت بتأثيرها إلى كل بيت عربى من المحيط إلى الخليج، ولهذا كانت موضع اهتمام قوى الاستعمار التى سيطرت على المنطقة لقرون طويلة، وكان ما حدث يوم 6 مارس 1956 دليلًا على ذلك.
يذكر أحمد سعيد، أنه مع الاعتذار المفاجئ لطه حسين لم يجدوا تسجيلا قديمًا يمكن إعادة بثه.. يعترف: «مع قلة الأشرطة فى ذلك الوقت، كنا نضطر آسفين إلى مسح ما سبق من تسجيلات وإعادة استخدام الأشرطة فى تسجيلات جديدة».. ويؤكد أنه أمام هذه المشكلة اختارت المذيعة المسؤولة نادية توفيق إذاعة برنامج غنائى عن ثروات العرب، يقدم فيه المطرب محمد الكحلاوى أغنية فيها كلمة البترول، والجاز».
بعد يومين من إذاعة البرنامج هبت عاصفة.. يقول «سعيد»: «فوجئنا باستفسارات منفعلة من وزارة الخارجية المصرية عن تفاصيل البرنامج الغنائى، أعقبتها تحقيقات رئاسية تولاها على صبرى، مدير مكتب جمال عبدالناصر، وتم التحفظ على الأسطوانة المسجل عليها البرنامج، لغضب الحكومة البريطانية منها، وإطلاق وزير الخارجية البريطانية تصريحا ساخطا يلوح فيه بتجميد عمليات جلاء القوات البريطانية عن مصر، وسائر بنود اتفاقية إخلاء قاعدة قناة السويس».. ويضيف «سعيد» أن الحكومة البريطانية اتهمت البرنامج بأن فيه روح عدائية لبريطانيا، وتهديد وتحريض لقتل جنودها ورعاياها فى الخليج وعدن، وأن هذا يعكس وجود نوايا عدائية مصرية ضد بريطانيا.
يتذكر «سعيد»: «بينما كان التحقيق الرئاسى مستمرًا فى مجراه، وقررت فيه تحمل المسؤولية كاملة تقديرًا منى واحترامًا لموقعى كمدير لصوت العرب، فوجئت صباح الخميس 29 مارس 1956 بجريدة الأخبار تحمل فى صفحتها الأولى ثلاثة عناوين حمراء وسوداء بعرض الصفحة وأعلاها، تقول: فضيحة دبلوماسية.. جمال عبدالناصر يكشف عن مؤامرة خطيرة ضد مصر.. وثائق مزورة تسلم إلى وزارة الخارجية البريطانية.. السفير البريطانى يحتج على إذاعات لم تحدث، ويلى هذه العناوين مقال لمحمد حسنين هيكل «كان فى مؤسسة الأخبار»، يروى فيه قصة الأزمة، والبرنامج البديل لحديث طه حسين، وكيف دخل السفير البريطانى «سير همفرى تريفيليان» على عبدالناصر بتسجيل ونص مكتوب لما احتواه، مؤكدًا أنه تسجيل كامل لما أذاعته «صوت العرب» طوال ساعات إرسالها أيام، الاثنين 5، والثلاثاء 6، والأربعاء 7 من مارس 1956».
ويضيف «سعيد» أن النص المكتوب الذى حمله «تريفيليان»، جاء فيه أن البرنامج وبصفة خاصة الذى أذيع يوم 6 مارس، يحتوى على تحريض مباشر على سفك دماء البريطانيين، وتدمير مصالحهم المشروعة فى الخليج وعدن بالخراب والدمار، ورد عليه عبدالناصر بأنه تلقى قبل استقباله معلومات تؤكد بأن اتهام حكومة بريطانيا لإذاعة «صوت العرب» غير صحيح، ويخالف تمامًا ما تبثه فى البرنامج مجال الاحتجاج.. ويعلق «سعيد»: «دار بين عبدالناصر وتريفيليان حوارًا يعكس صفة الوضوح والإصرار الواجب عند من أصبح همه وشاغله وكل قدره تحرير العرب».
قال عبدالناصر للسفير: «قد يكون فى إذاعة صوت العرب شىء غير قليل من الحدة فى اللفظ والعنف فى التعبير، ولكن أن يحرض كما تقول أو تدعى تسجيلاتكم على القتل، فهذا أنفيه، وأنفى صحة الوثائق التى بعثوا بها إليك من لندن».. ورد السفير: «ولكنها وثائق تسجيلات لمذيعى صوت العرب، وكيف يمكن أن تكون وثائق لندن مزورة ومزيفة».. رد عبدالناصر: «طلبت معلومات عن الأمر، وجاءنى تأكيد بأنه من الممكن عمل تسجيلات مزورة، وهذه ليست مشكلتى، وإنما مشكلتكم».. وسأل السفير:«ماذا أقول لهم فى لندن سيادة الرئيس، إنهم ينتظرون ردًا».. رد عبدالناصر: «قل لهم ما قلته لك».
ويؤكد «سعيد» أن السفير عاد إلى سفارته واجتمع بأعوانه ساعات لبحث الأمر، وفى اليوم التالى حدث تطور خطير كشف كل شىء، حيث تلقى السفير البريطانى من نظيره الأمريكى تسجيلًا سجلته المخابرات الأمريكية لكل ما بثته «صوت العرب» من بداية الإرسال حتى نهايته فى اليوم موضع الاحتجاج، وقام السفير ومساعدوه بتشغيله وتشغيل النسخة البريطانية فى نفس الوقت، فلاحظوا وجود اختلافات قليلة بينهما مما يثير الشبهات ضد التسجيل البريطانى.
انتهت الأزمة.. يؤكد سعيد: «فى يوم 29 مارس اتصل بى سامى شرف، سكرتير عبدالناصر، يخبرنى بموعد مع الرئيس غدًا، فى منشية البكرى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة